نشاط التذكر اللغويّ

حين تسألني (أذاكرٌ أنت وجهي؟) فإنّك تخلق في ذهني تصوّرات هي باعثة على التذكّر؛ وما يدفع إليه كل سؤال هو أن ينشّط في ذهنك معطيات لغويّة ودلالية وثقافيّة لها خلفيات مرتبطة بذلك السؤال. فالتذكّر عملية عرفانيّة لبناء تمثيل ذهني لتجربة هي في الحقيقة نسخة من تجربة سابقة.
التعرّف على الوجه هو بحث عن تنشيط ذهني لصورة وجه قديم يشبه وجه السّائل الذي من الممكن أن يكون تغيّر عبر الزمان. فالمثيل في التجربة السابقة قد اعتراه في الوقت الحاضر ضربٌ من التنوّع لم يحافظ على بصماته القديمة؛ ولعلّ المستمع لم ينتبه إلى التغيرات التي طرأت عليه أو لم يجد من آثار قديمة واضحة يمكن أن تساعد على تنشيط المثيل القديم المخزّن في الذاكرة. ما يُبحث عنه هو صورة مثيلة تشفّر هويّة من المفروض أنّها كانت مخزّنة تسمح بالتعرف على هوية هذا الوجه الذي ينتصب جسده أمامك ويسألك باللغة عمّن يكون.
الذاكرة جزء مدمج في العرفان البشري تسمح للبشر بأن يتذكّروا أي أن يرسموا عبر الماضي أحداثا، أو وجوها تساعد على تأطير فهمهم وسلوكهم في الحاضر. والذاكرة المعتمدة على الوجه هي نوع من الذاكرة التي تساعدنا على التعرف على من نتعامل معهم يوميّا، بحكم أن الوجوه هي نوع من المداخل إلى التعرف على هويّات أصحابها. يكفي أن ترى وجها مألوفا لتعرف كيف تخاطبه بالطريقة التي عليك أن تخاطبه بها، بل الأصل في المحادثات أن تدور بينك وبين أشخاص تعرفهم، فكلّ محادثة حتى لو كانت بسيطة هي مبنية على الحسم في التعرّف بواسطة التذكّر.
لست محتاجا في المحاورات العابرة مثل قول (صباح الخير) لمن اعترضك صباحا؛ وكم من صباح خير نقولها لوجوه لا نعرفها تأدّبا، أو مجاملة لكنّنا نستعمل عندها نوعا من الذاكرة ذات المدى القصير التي تربط بين نظرنا إلى وجه وتحيّته. وهذه الذاكرة لا تحتفظ بالمعلومات ولا تعيد استعمالها إلاّ لوقت قصير جدّا لا يتجاوز بعض الثواني (بين 15 و30 ثانية) ولها طاقة استيعاب وحفظ محدودة؛ جدّا فأنت لن تحتاج أن تخزّن وجه غريب عابر قلت له (صباح الخير)؛ فإن أعدت رؤيته من الغد فإنّ التكرار التدريبي هو ما سينقل وجهه إلى الذاكرة ذات المدى الطويل. ونحن نستعمل أيضا في هذه الحالة ما يسمّى بالذاكرة العاملة، وهي ذاكرة تحتفظ لك بمعلومات على مدى متوسّط أنت تحتاجها في بعض معالجاتك كأن تتذكر رقم هاتف محمول، أو تتذكر في الأسبوع التالي الحدّ الذي توقّف عنده درسك في الأسبوع الفارط؛ لكنّك لن تتذكره بعد سنة أو عقد من الزمان. وتذكّر الوجوه في فصلك يمكن أن تحتفظ به لفترة قصيرة أثناء ذلك الفصل الدراسي مثلا لكنّك لن تحتفظ بجميع الوجوه في السنين اللاحقة. كثير من هذه الوجوه التي نُسيت هي التي ستسألك أن نسيتها: (أذاكر أنت وجهي؟) فهو سؤالُ من لم تسعفه الذاكرة العاملة بأن سجّلت وجهه في الذاكرة ذات المدى الطويل.
حين أكرّر على مسامعك الآن (أذاكر أنت وجهي؟) من الممكن أن تتذكّر أغنية للسيدة فيروز لحّنها رياض السنباطي وغناها وهي من كلمات الشاعر جوزيف حرب طالعها :(أصَابِعِـي مِنْــــكَ في أطــــرَافِهَا قُبَلُ/ قَبَّلتَهُـــــنَّ فَهُــــنَّ الشَّمْعُ يَشتَعِلُ) وفي بيت القصيد يقول (أذاكِـــــــرٌ أنتَ وَجهِـــي إنّــَهُ زَمَــــنٌ/ عليهِ مـــرســومَةٌ أيّامُنَـــا الأُوَلُ). والفرق في تعاملنا بين (أذاكر أنت وجهي؟) سابقا والتعامل معها الآن وفي ما بعد، أنّها في الأوّل كانت منوالا لغويّا يحيل على معطيات متلبسة بالتصوّر والإدراك؛ أمّا التعامل معها فيختلف الآن بعد أن صار الكلام ينتسب إلى سياق ويرتكز على استعمال مخصوص. فهذا القول من جهة كونه كلاما، شعرٌ؛ وهو من جهة كونه سؤالا، طرفا السؤال من المفروض أن يكونا معروفين: قد يكون عاشقا لائما من يعشقه على أنّه فرّط بالنسيان في وجه كان بَرْديّا لقصص عشقهما في أيّامهما الأوّل؛ وأنّ السؤال لا يطلب مجيبا فالجواب مضمّن في السؤال وله بقيّة جواب عالق في الزمان.

إنّ أبرز مبدأ للتعاون الذهني يبرز في النصّ في مستوى جسْدنة الحسّ، فهناك ضرب من الانطواء الجسدي على النفس يبرز في عكس المشاعر على الأطراف المكونة له فالأصابع تشتعل احتفاء بأثرها فيه، كشمعة تضيء كي تذوي، والأصابع رسائل عشر في غياب الرسائل الفعليّة.

لقد صارت الدائرة التي ندرك فيها القول، عالما ممكنا معلومَ المرجع، وهذا يعني أن نبحث عن العلاقة بين العالم الأصلي الذي يحيل عليه الكلام وهو عالم المُواضعات عالمنا هذا والعالم الذي يراد بناؤه بالقول وهو العالم الافتراضيّ المتخيّل. لقد باتت دائرة الإدراك محصورة في سياق معلوم، وهذا يعني أن المعنى هو معنى غير مستقل عن السياق أو المقام؛ وأنّ بناء المعنى ينبغي أن يكون من أوّله إلى آخره داخل دائرة إبصار عامّة، هي التي تبني سياق القول وتؤطّره وتجعله دائرة الإبصار الكبرى. هذا التناول التداولي أو البراغماتي يدرس الأحوال الذهنية العالقة في الأبنية والعلاقات بين المساهمين في الكلام والمساهمين داخل الكلام. ولا يمكن أن نصل إلى هذا الهدف من غير الاعتماد على ثلاثة أركان ذكرت في مبادئ غرايس Grice وهي، التعاون والاشتراك والقصد التواصلي. إنّ المعطيات التي ذكرها غرايس أشبعت بالمعطيات التصوّرية، فالتعاون يدرس من جهة الاستعدادات الذهنية للمتكلمين وللمساهمين عند المحاورة، حتى يُتمّوها بسلام فالتفكير التعاوني الذهني المتطور عبر المحاورة هو المعنيّ في هذا الإطار.
إنّ الدائرة المشهديّة اللغوية التي تطرح فيها (أذاكر أنت وجهي؟) بما هي عيّنة في نصّ هي دائرة يمكن أن نراها بمنظار مقولة كلاسيكية لنقول إنّها دائرة غرضيّة غزليّة تتيح للمتحدّث تذكير من يعشق بمركزيته، وكيف أنّه رغم هذه المركزية في الحياة العاطفية فإنّ فتاته لا تبالي به، بل هي تنسى وجهه إنّه نوع من المعاني يدخل ضمن اللوم أو العتاب المألوف بين الأحبّة، وإن شئت سمّيته اتهاما بالتقصير.
إنّ أبرز مبدأ للتعاون الذهني يبرز في النصّ في مستوى جسْدنة الحسّ، فهناك ضرب من الانطواء الجسدي على النفس يبرز في عكس المشاعر على الأطراف المكونة له فالأصابع تشتعل احتفاء بأثرها فيه، كشمعة تضيء كي تذوي، والأصابع رسائل عشر في غياب الرسائل الفعليّة. لقد كان الجسد من خلال عيّناته وعناصره لاعبا دورا مهمّا في رؤية مشاعر الذات، وإن شئنا قلنا بلغة العرفانيّين الدقيقة، إن الجسد كان مركزيا في إبراز ظواهر عرفانية مرتبطة بالإدراك: كلّ الأشياء التي منبعها الباطن تبنى عن طريق الوعي بالجسد، الذي يبعث رسائل إلى النفس. في غمرة الاحتفال بالجسد يحضر سؤال يكسر هذه الاحتفالية التي تجعل حركة الباطن ظاهرة على سطح الجسد؛ هذا السؤال الوجودي: أذاكر أنت وجهي؟ يطرح طرحا لا يمكنه إلاّ أن يكون مأساويّا، فالذاكرة تقف على طرفي نقيض مع الحس.. حسٌّ مِنْ عِنْدِهِ مُتوقّد، وذاكرة من عندها ميتة، إذ يغيب وجهه لديها على مرافئ ذاكرة لا تجود بأن تسحب صورته من النسيان. هنا لا يمكن أن يحدث التعاون ولا يمكن أن يحدث التشارك المطلوب في المستوى الداخلي لدائرة الإبصار اللغوية: مستوى المساهمين في النصّ أو لنقل فواعله الداخليّة؛ ولكنّه سيحدث حتما في مستوى قشرة النصّ: في مستوى فواعله الخارجيّة: أنا القارئ وهو الشاعر. التعاون الذي يحدث بيني وبين الشاعر الناظم في فهم هذه اللغة الخارجة عن أنساقها والمبنيّة بطريقة غير خطّية، وغير مألوفة في الخطاب اليومي سأفهمها، وسألبّي حاجة المبدع. لكنّي لن أساهم إلاّ بقسط في تلطيف عنائه؛ ولن أرجع له وجهها الذي هو على مرافئ النسيان. التشارك لا يحدث بين طرفي الفعل الداخلي، وهو وإن حدث في مستوى التمتع بالنصّ، فإنّه تمتع بالفنّ كالذي يحدث في المآسي، نبكي ولا نعرف لمَ نبكي: أللجمال نبكي أم للمأساة ننوح؟ مأساة تكبدتها فواعل علقت في باطن النصّ لا يذكر بعضها وجه بعض هي التي امتزجت بعض أرواحها ذات مرّة ببعضها حتى صارت أمشاجا.

أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسيّة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية