قد يتوهم القارئ لعنوان رواية «نشيد الرجل الطيب» أنه قد يبحر في رواية مليئة بالموسيقى والإنشاد والمشاعر، والعلاقات الإنسانية الدافئة، إلا أنه سيكتشف منذ صفحاتها الأولى أنه إزاء رواية مثقلة بالقضايا والمشكلات، والأفكار، والعلاقات المتشابكة والظلم والفساد، وخراب الذمم والخيبات، والكثير من حقائق الحياة التي تولد القهر والبؤس، وتدفع للموت كملاذ أخير. وتزخر الرواية بكثير من القضايا والأفكار التي يمكن تناولها، وقد آثرت أن أقتصر على أهمها:
التجارة والتهريب
تفتح الرواية ملف التجارة بين الدول، وما يواكبها من عمليات تهريب ورشوة وقتل، من خلال شركة «محمد العبد» الذي بدأ من الصفر، ثم كبر حتى أصبح امبراطوراً للتجارة، يتحكم في أسطول يتنقل بين دول المنطقة، بالإضافة إلى صفقاته الخارجية، حيث يشتري ويبيع ويودع في بنوك أجنبية، ولم يكتف بتجارة النفط والفواكه والإسمنت ومواد البناء، بل دخل مجال تجارة الأسلحة وتزويد الفرقاء المتصارعين في أي دولة، وكما هي العادة؛ فإن التهريب والرشوة رديفان للتجارة بين الدول، حيث يتم تهريب المخدرات والحشيش والسجائر والخمور والعطور وغيرها، ورشوة رجال الجمارك والحدود عند الضرورة، ما يدر دخلا إضافياً للسائقين، والملايين لغازي العبد، الذي لا يتورع عن التخلص من أي سائق يرى فيه تهديداً لمصالحه أو تجاوزاً لحدوده، وكان هو وأبوه يمثلان الرأسمالية القذرة، والشهوة المتوحشة للثراء بأي وسيلة، وإن كان على حساب المبادئ والقيم وتجاوز القانون.
ثقافة القمامة
كشفت الرواية عن جوانب مظلمة في المجال الثقافي، وهي ملموسة على أي حال، فمن ذلك، لجوء بعض الفنانين، خاصة العراقيين لعرض أعمالهم للبيع في متجر «نشيد الرجل الطيب» لصاحبه مسعود الصانع، لعجزهم المالي عن إقامة معارض خاصة بهم لارتفاع الكلفة، وشيوع الشللية، كما أن بعضهم لجأ مضطراً لبيع لوحاته لفنانين آخرين وتوقيعها بأسمائهم، وعرضها على أنها لهم، وهذه الحالة موجودة في أكثر من مجال، سواء في الفنون أو القصة والرواية والشعر وغيرها، لأن الوضع المزري للثقافة يُعلي من شأن الاسم على حساب المنتج، بوجود الشُلل التي تهلل وتسحج.
ومن خلال مؤسسة العبد الثقافية التي يديرها بهاء الابن الثاني لمحمد العبد، أبانت الرواية عن جانب آخر، حيث إعلاء الثقافة السطحية، وتسويق ثقافة القمامة، حيث تهتم المؤسسة بموضوعات هامشية بعيدة عن الشأن العام، وتزوير الثقافة، وتلميع الفارغين، ومن الأساليب المتبعة: «أن يُستقبل كاتب مغمور بحفاوة، ويُقدَّم كما لو أنه واحد من الأدباء الكبار، وتجاهل زائر مهم له قيمته الأدبية الرفيعة. يجلس بين جمهور الحاضرين دائماً مجموعة من الأشخاص الذين يتم تلقينهم أسئلة تحاول الحط من قيمة الضيف غير المرغوب فيه، مثل أن يلقوا عليه أسئلة شخصية محرجة أو يحاولوا تقليل قيمة ما يكتبه، أو حتى اتهامه».
كما عمدت المؤسسة إلى غربلة المكتبة من الكتب التي تخالف توجهها، حيث «أن الكتب التي تحمل أفكاراً تخالف النهج الذي أنشئت من أجله المؤسسة؛ كانت معارة طوال الوقت، ولم يتمكن التلميذ الجامعي، أو الباحث الأكاديمي، أن يحظى بفرصة استعارة أو قراءة هذه الكتب الحاضرة في سجلات المؤسسة، والغائبة عن رفوفها». وحتى تكتمل مهمة المؤسسة ودورها المشبوه، تحولت إلى ما يشبه المقهى، حيث يكثر «الجدل والحديث في كل شيء عدا ما يخص الثقافة. مقهى برجوازي أنيق، كراس فاخرة، شاشات عرض زاهية، ندوات عن الليبرالية الزاهية، وأدب الأطفال المشوه؛ لكن بلا تدخين». وما لبث المؤسسة أن أغلقت أبوابها، بعد أن كثرت المؤسسات والهيئات الصغيرة التي تنافسها، وسحبت جمهورها، وكلها تسعى جاهدة لنشر فيروس «الثقافة مقلمة الأظافر» فانتشر الغثاء، وظهر مئات الروائيين والشعراء والفنانين.
الحياة الحزبية
التجربة القاسية لمسعود الصانع، واتهامه بعضوية الحزب الشيوعي لمجرد قراءته لبعض كتب الحزب، قادته بعد سنوات إلى أحضان الحزب الشيوعي، ومكث فيه عشر سنوات، ثم ما لبث أن تركه بعد تجميده. ومن خلال رؤية مسعود الصانع، وهي رؤية تصدق على كثير من الأحزاب، فإن الحزب تحول إلى عصابة، يمارس القمع والإقصاء، ولا يؤمن بالرأي الآخر، ويناقض أفكاره الأساسية، ويقدس الأفراد، ويبعد المنافسين والصادقين والمخلصين. وكان مسعود على قناعة بأن الرفاق «ينكلون برفاقهم بأعتى مما تنكل بهم الحكومة».
والحياة الحزبية هي تنازل عن الأنا والوعي الذاتي لمصلحة الحزب، والإيمان المطلق بكل أدبياته وأفكاره، وأن يكون العضو مجرد فرد في قطيع، يؤمر بالطاعة والتنفيذ الأعمى، دون نقاش أو اعتراض، وهذه كانت السبب في القطيعة بين مسعود وحزبه عندما اعترض على كتاب «بريسترويكا» لغورباتشوف، حيث رأى أنه لا يتفق والأدبيات الشيوعية، وأنه يدعو إلى الاحتكام إلى الديمقراطية التي تتناقض معها، وكشف مسعود أن غورباتشوف في كتابه، أفصح أنه كتبه بناء على طلب الناشرين الأمريكيين، ما جعل أعضاء الخلية التي تناقش الكتاب أن تثور عليه، وتطرده من الجلسة، ومن ثم تجميده.
ومن الممارسات الحزبية التي رواها مسعود، أن الحزب أوقفه عن إقامة المحاضرات التثقيفية، وعلم لاحقاً أن الرفاق لم يعجبهم إعجاب الآخرين به، خاصة الرفيقات. كما قام الحزب بتجميده بتهمة التشهير، لأنه تساءل عن إجراءات الحزب بشأن اعترافات أحد الرفاق، الذي كشف للمخابرات كثيراً من الأسماء والمعلومات. كما يتذكر مسعود بأسى ما حدث مع صديقه «الزين» الذي ترشح لانتخابات النقابة بأمر من الحزب، لكنه خسر الانتخابات بتآمر من الحزب، عندما شعروا بأنه سيحصل على أعلى نسبة من الأصوات تفوق نسبة الرئيس الحزبي.
القابعون في الظل
ليس إيمانًا بنظرية المؤامرة، لكن قناعة بالحقائق التي لا ينكرها إلا أعمى البصيرة، فثمة قوى خفية تحكم العالم، وهي تحرك الرموز الظاهرة كأحجار شطرنج، ولا يستطيع أحد أن يفلت من قبضتها، فمحمد العبد كان مجرد أداة بيد إحدى هذه القوى، تحركه وتوجهه وتأمره بما يفعل وكيف يفعل، وكانت من وراء تجارته بالسلاح لتسليح الميليشيات والجماعات المتناحرة هنا وهناك.
وهذه القوى كانت تأمر كبار التجار في بغداد ودمشق وبيروت وغيرها للتجسس لصالح الإسرائيليين، ولم يجد غازي العبد مناصاً من أن يرضخ للتعامل معهم، فالمال رب يُعبد، أقوى من المبادئ والقيم.
كما أن بهاء العبد الذي كان يقيم في أمريكا، كان أحد أدوات هذه القوى في حروبها الثقافية، وهي التي نسبته لإدارة مؤسسة العبد الثقافية في عمان، ليسهل لها التحكم وتوجيه الثقافة كما تشاء، وبما يحقق أهدافها في تمييع الثقافة وتسخيفها، وإبعادها عن الحياة العامة والمجال السياسي ومصالح البلاد والعباد.
وبعد، فإن «نشيد الرجل الطيب» منشورات الضفاف والاختلاف 2021، 224 صفحة، رواية حفلت بالإضافة إلى ما سبق بقضايا وأفكار كثيرة منها: الحرب، السلام، الخلود، عقدة أوديب، الحب والزواج، العلاقات الأسرية، القبضة الأمنية، وغيرها. ومع أن عمان الأردنية كانت الفضاء المكاني للرواية، إلا أنها تمثل أي مكان في أي دولة عربية، لتشابه القضايا والمشكلات التي لا تختلف بين دولة وأخرى. وهذه الرواية هي الإصدار الأحدث للروائي الأردني قاسم توفيق، الذي أصدر من قبل عدداً من الروايات منها: «ماري روز تعبر مدينة الشمس» 1985، «أرض أكثر جمالا» 1987، «عمان ورد أخير» 1992، «ورقة التوت» 2000، «الشندغة» 2006، «حكاية اسمها الحب» 2009، «البوكس» 2012، «رائحة اللوز المر» 2014، «صخب» 2015، «حانة فوق التراب» 2015، ««زف الطائر الصغير» 2017، «ميرا» 2018، بالإضافة إلى مجموعات قصصية منها: «آن لنا أن نفرح» 1977، «مقدّمات لزمن الحرب» 1980، «سلامًا يا عمّان سلامًا أيتها النجمة» 1982، «العاشق» 1987، «ذو القرنين» 2009. ونال قاسم توفيق جائزة كتارا للرواية المنشورة عن روايته «نزف الطائر الصغير» دورة 2018.
كاتب أردني