ريح باردة
الريح تصفر والبقال يستعجله في إملاء طلباته جملة واحدة. الليلة باردة؛ ويود الإغلاق والذهاب لبيته مبكرا. رقائق البطاطس التي تحبها ابنته، أكياس العصير لابنه الصغير، الجبن الإيطالي، والخبز الفرنسي، والزيتون النابلسي لزوجته، وعلبة السجائر التي بالتأكيد ستوبخه عليها لاعتلال صحته في الأيام الأخيرة. في الخيمة المنصوبة قبالة ركام بيته؛ تناول عشاءه. أشعل سيجارته. نفض الغبار عن الصورة العائلية الباهتة. تمدد ونام؛ عل لقاء في سقف الحلم يتحقق.
فراغ
ليلة باردة لم تستطع تدفئة المترو المركزية تبديد صقيعها، في العربة الأخيرة ثمة ركاب قليلون متناثرون على المقاعد الخالية، رفقة ليلية شبه ناعسة، وحيدا أقف أمام الباب الخالي، قبالتي فتى يقلب بصره ما بين هاتفه والمرأة الخمسينية، التي اقتربت مني بخفة وتوتر ملحوظ، راجية مني لو أمسك يدها حين النزول لأنها خائفة من أن تقع ما بين رصيف المحطة والقطار فتسحق. بدت بكنزتها البيضاء، ووجها شديد الشحوبة، كما لو أنها طفلة تائهة؛ مع أن يدها المرتجفة القابضة على يدي توحي بصلابة لا تتناسب مع خوفها.
في اللحظة التي نزلنا فيها بهدوء وفي استدارتي لطمأنتها، تحولت إلى دخان أبيض كثيف ينزلق ناحية العجلات؛ تبخرت؛ فيما يدي لا تزال قابضة بعنف على الفراغ.
شيء كهذا لا يحدث، سأراجع طبيبا نفسيا. غير أن نظرات فتى الهاتف المذعورة من خلفي، توحي بأنني لا حاجة لي بذلك.
فزع
صرخ في طفلته الصغيرة لمنعها من سحب سلك الكهرباء من القابس، إصرارها العفوي اضطره للقيام مفزوعا باتجاهها. سقطت آنية إعداد الطعام من يد زوجته الخارجة من مطبخها على صوت الجلبة؛ فيما لا تزال نظراتها المندهشة موزعة بينه وبين الكرسي المتحرك.
المدينة التي ضحكت
بصعوبة وصل إلى المقعد الفارغ في الباص الممتلئ، اقتنصه قبل أن يصل إليه الرجل الواقف في المنتصف، لاحظ تقطيبة جبينه، نظر حوله، لم يكن وحده العابس، الوجوه كلها كئيبة، الشمس الصفراء الباهتة في الخارج لم تكن تسر الناظرين، كانت مخنوقة بالعادم والريح الخماسينية، ما جعله يشيح النظر عن النافذة.
ضحك فجأة، تأفف جاره في المقعد. حين استمر بالضحك؛ ضحك الجالس بجانبه مستنكرا في البداية؛ ثم تابعه ضاحكا. التفاتة من الجالسين أمامه وخلفه جعلتهم يضحكون. ضجت الحافلة بالضحك. السائق المتمايل ضحكا خلف مقود القيادة، لفت انتباه سائقي المركبات الآخرى التي لاحقته مستفسرة عما يضحك؛ ضحكت هي الآخرى. ضحك عسكري المرور. ضحك المارة العابرون. قهقه أصحاب المحال الواقفين أمام دكاكينهم الخالية. أطلت الرؤوس من الشرفات والنوافذ مستسلمة لنوبة الضحك الجماعية. ضحكت المدينة بأكملها؛ ظلت تضحك وتضحك وتضحك.
حين نزل من الباص؛ مسح دموعه ومضى. غاب كشبح في الدخان والتراب الذي يبتلع المدينة.
نسيان
عصرية خريفية؛ شمس متكسرة تقاوم المغيب.
يدخل من بهو المقهى العتيق.
يجلس أمامها متأملا ملامح الزمن.
تتواجه العينان قليلا قبل أن تميل برأسها وتكمل القراءة.
كاتب وإعلامي مصري