د. يوسف نور عوضأعلن الرئيس الرئيس السوداني عمر حسن البشير أنه لن يترشح لفترة رئاسية مقبلة، وأثار الترشيح اهتماما شعبيا وسياسيا كبيرين، ذلك أن معظم أفراد الشعب يربطون – دائما – شكل النظام السياسي في العالم العربي بالرئيس الذي يحكمه. وعلى الرغم من أن طبيعة الأنظمة السياسية في السودان تختلف عنها في بقية أنحاء العالم العربي، فلا مانع من أن نتوقف لننظر في التطورات السياسية التي ستحدث في السودان في أعقاب تنازل الرئيس السوداني عن السلطة.ولنبدأ بالآراء التي تباينت في أعقاب التصريح الذي صدر عن الرئيس السوداني، إذ ذهب البعض إلى التركيز على ثلاثة آراء:أولا: قال البعض إن المطلوب في المرحلة القادمة، هو عقد مؤتمر شامل، أطلقوا عليه اسم مؤتمر المائدة المستديرة تلتقي فيه كل الأطياف السياسية في السودان من أجل النظر في نظام جديد يخلف نظام الرئيس البشير، ولم يتوقف هؤلاء عند أمرين، الأول هو أن استقالة الرئيس البشير لا تعني ذهاب النظام، والثاني هو أن مؤتمر المائدة المستديرة الذي ستجلس فيه الأحزاب التقليدية مثل حزب الأمة والاتحادي الديموقراطي والشيوعي لا يعتبر وصفة جديدة بكون هذه الأحزاب انتهت فترات حكمها بأنظمة عسكرية منها نظام الإنقاذ نفسه، ولا تمتلك هذه الأحزاب في معظمها رؤية لإقامة نظام دولة جديد، ذلك أن كل ما تفكر فيه هو أن تشكل حكومات تأتي بها إلى السلطة.ثانيا: ذهب البعض إلى أن المطلوب هو ثورة شعبية على غرار ثورة أكتوبر تطيح نظام الحكم القائم، ولا تعتبر هذه فكرة صائبة لأن الوضع في السودان – الآن – ليس كما كان عليه الحال أيام ثورة أكتوبر، إذ عندما اندلعت ثورة أكتوبر كانت العاصمة السودانية مدينة صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها النصف مليون، وهي تتميز بدرجة عالية من الأمن والثقافة الاجتماعية الميالة إلى السلم والهدوء، لكن اليوم فإن سكان مدينة الخرطوم يقارب العشرة ملايين، وهم مهاجرون إما من الأقاليم وإما من بعض الدول الأفريقية الأخرى، وليس هناك ضمان على أن هذا الوضع سيدعم الاستقرار في هذه العاصمة، وبالتالي فإن الدعوة إلى ثورة شعبية لن تكون موجهة تجاه نظام الحكم، بل ستكون موجهة نحو حرب أهلية لا تبقي ولا تذر ولن تكون هناك وسائل واضحة لانتهائها.ثالثا: ذهب البعض إلى خروج انقلاب عسكري ينهي النظام وهذه أيضا فكرة غير صائبة، لأنها لا تركز في شيء سوى إزالة النظام دون أن تتوقف عن الأهداف التي ترفعها الأنظمة العسكرية الانقلابية وما إذا كانت مثل هذه الأنظمة ستحقق ما يطمح إليه الناس حقا؟ويبدو مما ذهبنا إليه أن معظم الذين توقفوا عند إعلان الرئيس البشير رغبته عدم الترشح لفترة مقبلة ربطوا استمرار نظام الانقاذ بوجود الرئيس البشير على سدة الحكم، دون أن يتنبهوا إلى أن نظام الانقاذ على مدى عقدين من الزمان قد أسس نفسه على أنه نظام حكم، وبالتالي فإن الذين يفكرون في إزالته يجب أن يتوقفوا عند الأهداف التي انطلق منها هذا النظام وما إذا كان قد استطاع خلال فترة حكمه أن يحققها. وكما هو معلوم فقد انطلق نظام الحكم من أهداف إسلامية، ولا يجوز هنا التوقف عند الأهداف التي انطلق منها لأن الإسلام عقيدة كبرى وفيها كثير من القيم التي تؤسس لنظام حكم، ولكن المشكلة دائما هي أن الأنظمة التي تريد أن تؤسس نفسها على المبادىء الإسلامية لا تبذل مجهودا كبيرا في وضع التصور العملي لإنشاء نظام الحكم على الرؤية الإسلامية، وليس السودان استثناء في ذلك لأنه بعد عقدين من الحكم رأينا الرئيس البشير يدعو الأحزاب التقليدية أن تشارك معه في وضع دستور جديد للبلاد مع أن هذه الأحزاب ظلت على مدى العقدين السابقين تنتظر منه أن يضع الدستور الذي يكون أساسا لحكم الانقاذ، ولكن ذلك لم يحدث على الاطلاق، وانطلاقا مما ذهبنا إليه، فإن المطلوب في هذه المرحلة في السودان ليس فقط التفكير في تغيير نظام الحكم بل المطلوب هو الآراء البناءة التي تؤسس لنظام دولة جديد يمكن أن تتعايش فيه سائر الاتجاهات من خلال النظام وليس من خلال الطموحات السياسية التي تعتمل في صدور قادة الأحزاب، ومن المؤسف أن هذا الواقع لا وجود له في السودان، لأن معظم القيادات السياسية إما حاولت أن تؤسس سلطتها على منظور طائفي أو قبلي أو عرقي ولم يحاول أحد أن يؤسس نظام الحكم على أساس سياسي.ولا شك أن الحراك الذي يحدث في السودان الآن ليس سببه ضيق الناس بنظام الحكم، بل سببه رؤية الناس أن هناك تغيرا في نظم الحكم العربية ويتساءلون إن كان ما حدث في العالم العربي سيحدث في السودان، دون أن يتوقف الناس ليتأملوا ما حدث في العالم العربي، ليتعلموا منه دروسا أكثر فائدة من التغيرات التي رأوها تحدث في هذا العالم، ذلك أن الثورات التي حدثت في بعض بلاد العالم العربي مثل تونس وليبيا واليمن ومصر لم تفرز حتى الآن أنظمة حكم تصلح أن تكون بديلا لأنظمة الحكم القائمة، والسبب في ذلك بسيط جدا وهو ان التركيز كان دائما على إزالة أنظمة حكم مستبدة دون التركيز على البدائل التي يمكن أن يحدث بها التغيير.وإذا نظرنا إلى العالم العربي منذ ستة عقود وجدنا أن هذا العالم لم يتغير كثيرا، ذلك أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ظل العالم العربي يخضع لانقلابات عسكرية يسميها القائمون بها ثورات دون أن يثبت هؤلاء أنها كانت ثورات حقيقية، وكان ما يدعم تلك الثورات النظام اليساري الذي كان سائدا في الاتحاد السوفييتي الذي ظل يمني الشعوب بالخير والبركات التي لم تحدث مطلقا في أنظمة حكم لم تعرف سوى السجون والإرهاب وقتل المواطنين، ولم تكتف هذه الأنظمة بذلك بل رأيناها في الوقت ذاته تقسم العالم العربي إلى عالم تقدمي وآخر غير تقدمي، ولم يكن ذلك تصنيفا حقيقيا أو مفيدا في ظل الواقع الذي يعيش فيه العالم العربي، وبدل أن تتجه الدول العربية في ذلك الوقت للتعاون انشغلت في ما بينها وأصبحت أنظمة الحكم وسيلة للفرقة، وحتى الجامعة العربية نفسها لم تكن مؤسسة لجمع العرب، بل أصبحت مؤسسة سياسية تتحكم فيها الحكومات العربية ضد مصالح الأمة العربية، وبدلا من أن تصبح الجامعة العربية مؤسسة ديموقراطية يتناوب العرب في رئاستها حتى يشعروا بانتمائهم إليها أصبحت تحت سلطة دولة واحدة تتحكم فيها حتى في الأوقات التي تكون فيها خلافات عربية كبيرة، ومؤدى قولنا أن العالم العربي يحتاج إلى تغيير يتم من خلاله التعاون بين الدول العربية، ولا يحدث ذلك من خلال الثورات التي تقلب أنظمة الحكم بل يحدث من خلال التفكير السياسي المتناغم والبناء على النحو الذي أشرت إليه في هذا المقال وفي غيره من المقالات.’ كاتب من السودانqraqpt