نظام «التخمين» اللبناني والتبعيات الموازية

حجم الخط
0

أن تزداد تبعية لبنان للخارج في فترة ما بعد تحرير جنوبه من الاحتلال الإسرائيلي ثم جلاء «الوصاية» العسكرية والمخابراتية السوريّة عنه بعد ذلك بخمس سنوات، فهذا ما كان ليخطر على البال.
كانت الناس منقسمة في تسعينيات القرن الماضي بين فئة تقدّم رحيل الجيش السوري على سواه من الغايات والأهداف، وبين فئة تقدّم تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي والميليشيا المعاونة له على كل سعي آخر. كما وجدت محاولات تجسير البون بين الفئتين، وتفاوتت هذه المحاولات بين المماهاة بين الوصاية والاحتلال، بل دمجهما في لفظة احتلالية واحدة، وبين التمييز بينهما، بالإصطلاح أو بالدرجة.
يبقى أنّ الجميع، تقريباً، كان يتمسّك بناصية «تحريرية» ما، كباب للخلاص الوطني. أما أن يكون البلد بلا احتلال إسرائيلي لمعظم جنوبه، وبلا وصاية سورية مباشرة عليه بدءاً من عاصمته، أي أن يكون «من غير شرّ» من دون الجيشين السوري والإسرائيلي على أرضه، وأن يكون مع ذلك أشدّ تبعية للخارج من فترة كان فيها البلد، ملزّما أمريكياً وعربياً لنظام آل الأسد، والشريط الحدودي الجنوبي منه تحتله إسرائيل، فهذا كان بمثابة «اللامفكّر به» بامتياز بالنسبة إلى كل من تعاطى السياسة أو داخل فيها في عقد التسعينيات. وقتها كان أكثر ما يتمناه اللبنانيون، مأخوذين جملة، هو أن لا تكون هناك جيوش أجنبية، صديقة أو عدوّة، على أرضه. اليوم، هناك مقاتلون لبنانيون في سوريا، إلى جانب النظام، وليست هناك قوة عسكرية لجيش أجنبي بعينه، باستثناء القوة الدولية المتعددة الجنسيات المعززة في إثر حرب تموز، جنوب الليطاني، لكن البلد ككل أكثر استتباعاً من أي وقت سابق، ومن قبل عواصم قرار إقليمية ودولية ليس بينها وبين لبنان حدود، وليست تبسط عليه جيوشها بالمعنى التقليدي للجيوش. أكثر من ذلك: عندما تمرّ عاصمة من هذه العواصم بفترة تجد فيها من الأنسب لها اللامبالاة تجاه الحاصل في الداخل اللبناني، فهذا الأمر يزيد الاستتباع استفحالاً لا العكس، بما في ذلك زيادة حصة الطرف اللامبالي هذا من «الإستتباع» له.
والبلد بعد 2005 هو في الوقت نفسه أكثر تبعية لمحور الممانعة الذي تقوده إيران وحرسها الثوري، وأكثر إرتباطاً بأنماط من التدويل يلمع ضمنها الدور الفرنسي، لكن تبقى فيها الصدارة للأمريكيين، مع وجود قوات الطوارئ الدولية جنوب نهر الليطاني، المعززة بعد حرب تموز. وإذا كان النفوذ الإيراني في البلد يتقوّم أساساً من خلال ارتباط «حزب الله» العضوي والعاطفي بولاية الفقيه والثورة الإسلامية في إيران، فإنّ النفوذ السعودي فيه انتقل من «توكيل» آل الحريري إلى محاصرتهم، من دون نزع التوكيل عنهم تماماً. تجد إيران قوّتها من خلال دعم وإمداد وكيلها في لبنان، وتجد السعودية قوّتها من خلال زيادة الضغط على وكيلها فيه، والمسوّغ إلى ذلك أنّ وكيلها واقع موضوعياً بشباك غريمه وغريمها، «حزب الله».
بالتوازي، كلما استشرى نفوذ الممانعة جرى التفنن في المقابل بإضافة أشكال جديدة من التدويل الكلي أو الجزئي للمسائل اللبنانية. وكل هذا يقدّم لنا نظاماً سياسيّاً يصعب التعايش بين مكوناته تارة، أو يتحول فيه هذا التعايش إلى تكيّف المغلوب مع إرادة المتغّلب، وإلى وبال محاصصي إجماليّ على العدد الأكبر من الناس، في حين تبدو حظوظ التعايش بين النفوذين الإيراني والأمريكي ـ الغربي أعلى، وأكثر صبراً وتمرّساً على المراوغة والإنتظار.

أن تزداد تبعية لبنان للخارج في فترة ما بعد تحرير جنوبه من الاحتلال الإسرائيلي ثم جلاء «الوصاية» العسكرية والمخابراتية السوريّة عنه بعد ذلك بخمس سنوات، فهذا ما كان ليخطر على البال

ثمة فائض استتباعيّ للبنان إذاً، من شرق ومن غرب، وهذا يظهر بوضوح كلّي اليوم، في إثر الإنفجار شبه النووي. في الوقت نفسه، معرفة ما الذي حصل في 4 آب، والفصل في أمر التفجير، هي معرفة مستحيلة بالوسائط المحلية الصرف. قد لا يكون للتحقيق الدولي العتيد ما يضمن أفقاً لإقراره، أو فاعلية لإتمامه، أو مناعة بازاء محاولات حرفه عن مساره، لكن من دون التحقيق الدولي كفكرة ليس هناك وسيلة أخرى لمعرفة ما حصل. وتجاوز معرفة ما حصل، على اعتبار أنها لن تكون متاحة كمعرفة في أي يوم، لا يمكنه إلا أن يزيد الحاجة إلى هكذا معرفة، وأن يزيد الناس إلحاحاً في طلبها. المفارقة أنّ هناك – بدءاً من أعلى الهرم الرسمي في الدولة – من يرفض التحقيق الدولي من حيث المبدأ، في حين يقبل على طلب التدقيق الدولي في الحسابات المالية للدولة والمصرف المركزي، ويتعايش مع جملة من الأحوال التدويلية للشؤون الداخلية اللبنانية.
في المقابل، شعبية فكرة التحقيق الدولي في أمر الإنفجار الكارثي فترت بشكل واضح في إثر تلاوة قرار المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري، هذا لأنّه وجد رأي غير واقعي بالغ في توقّعاته من المحكمة فلم يستطع من بعد ذلك تلمّس جديّتها الفعلية في قرارها في القضية التي تطلق عليها من سنوات طويلة اسم «قضية سليم عياش ورفاقه». بدلاً من علاقة «نثرية» مع هذه المحكمة، يظهر أنّه كان لها «جمهور شعريّ» لها، وهذا أصيب بكبوة، وانسحبت هذه الكبوة بالنتيجة على مطلب معرفة ما الذي حصل في مرفأ بيروت. لو لم تكن هناك محكمة دولية لما أدين أي نفر ينتمي إلى محور الممانعة، والتاريخ لا يعج أساساً إلا باغتيالات، داخل وخارج لبنان، لم يكشف منها قضائياً، غير القليل المتواضع والأقل من القليل. التدويل لا يضمن معرفة الحقيقة، لكن لا معرفة للحقيقة لا في مقتل الحريري وعمليات الاغتيال التي تلت، ولا في انفجار المرفأ، بالوسائط المحلية البحت. ليس التدويل هنا بمنأى عن الزغل أو عن القصور، لكن انتفاءه يعني الإنصراف جبراً لحكم «التخمين». وبعد 4 آب، يعيش البلد، أكثر من السابق، تحت عسف «التَخمين» بفتح التاء، أو «التُخمين» ضمّاً، في المحكية اللبنانية.
أحياناً، يبدو الأمر كما لو أن النفوذين الإيراني والغربي يمارسان على لبنان في عالمين متوازيين، الواحد منهما للآخر. وفي كل الأحيان وبكل الأحوال، لا يبدو أن لأحد النفوذين قدرة على لجم الآخر. يدفع هذا التعايش بين النفوذين، تارة الى التعايش بين «أهالي النفوذين» وتارة الى امتناع أو استعصاء أو تلف هذا التعايش. أن يكون كل هذا استفحل في فترة ما بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي والوصاية السورية، وأكثر فأكثر في فترة ما بعد ضعف القسمة بين فريقي 8 و14 آذار، فهذا بحد ذاته مفارقة مزدوجة.
جانب من المفارقة أنّ التفكير بكيفية التفلّت من النفوذين المتعاديين المتواجهين المتوازيين لم يحصل بعد. فمن الهزل تصوير تمدد هذين النفوذين وتتالي الأشكال الغريبة للعلاقة أو اللاعلاقة بينهما على أنها مجرد امتداد لألعاب القوى السياسية الداخلية الموالية إما للغرب والدول العربية المائلة له، وإما لإيران ومحور الممانعة. هنا بالذات تتكشف مشكلة عويصة لم تتمكن انتفاضة 17 تشرين والحيوية الناشئة في إثرها من الإقتراب الابتدائي منها، لأنّ أوّل الإقتراب هو معرفة لماذا ازداد البلد تبعية للخارج بهذا الشكل بعد انسحاب جيوش الخارج منه؟ الإجابة بأنه بسبب «فساد الطبقة السياسية» هو بكل بساطة انعدام جواب.
أول الجواب في المقابل أنّ الأمور سارت على هذا النحو لأنّه بلد صغير تجد فيه دول متواجهة على صعيد الإقليم مصلحتين فيه لكل منها: مصلحة في نفوذ يفرز حتماً «أهله» في الداخل اللبناني، ومصلحة في تعايش هذا النفوذ مع نفوذ الخصم والغريم، إلى أنّ يفرض انقلاب الحال في المشهد الإقليمي العام أن ينقض نفوذ على آخر، وأهل نفوذ على أهل النفوذ الآخر… لأنه في كل الأحوال، لا يسع «التوازي» بين أنماط النفوذ بلوغ مرحلة الإتفاق على تقاسم النفوذ. انها أنماط نفوذ متوازية، لكنها محكومة بأفق مختلف تماماً عن طبيعتها: أفق أنه «عاجلاً أم آجلا»ً سيكتب كل شيء أو لا شيء لهذا الفريق أو ذاك.

كاتب لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية