في معرض الحديث عن موجة الاحتجاجات العارمة التي شهدتها فرنسا في الأيام الأخيرة، يمكن استعمال وجوه المقاربة التقليدية بالاعتماد على الزاويتين الأمنية والاجتماعية، لكن يمكن أيضا التوقف عند المصطلحات التي تراشقها ممثلو الطبقة السياسية اليمينية عندما غلبوا، على اختلاف توجهات تشكيلاتهم، كلمة وجدوها الأنسب لتلميع صورتهم، وهم لم يتركوا شاردة ولا واردة في طورهم الاستعدادي للاستحقاقات الانتخابية: «نظام»!
بدرجات متفاوتة من التشدد، اشترك اليمين المتطرف واليمين التقليدي والائتلاف الحكومي في ترديد هذه الكلمة، يصاحبونها بدعوات كلاسيكية إلى الهدوء، في خطاب معتاد نسمعه دائما عندما تختتم دورة ديماغوجية جديدة من تجاهل جذور المشكلة. «نطالب بالنظام، باستعادة النظام!» يقول زعيم حزب الجمهوريين اليميني إيريك سيوتي، ثم ينهي الكلام بما يرى فيه القول الفصل: «أطالب رئيس الجمهورية بفرض حالة الطوارئ»، حالة الطوارئ التي جعلتها مترشحة الحزب الوطني اليميني المتطرف مارين لوبين عنوانا لخطاب ألبسته ملامح الخطاب الرئاسي، فكانت حالة الطوارئ – ولم نتوقع منها أقل من ذلك ـ الشماعة – الفزاعة التي توسلت بها لتدعيم «جاذبيتها» «كأول قوة معارضة في البلاد». بالكاد اختلف الائتلاف الحكومي عن الترويج لهذا الخطاب، لو استثنينا حالة الطوارئ التي غيبتها منه (لكن التي طبقتها بصورة مخففة عندما ألغت التنقل بالمواصلات في المدن بدءاً من السادسة مساء). أما اليسار، فلم يتحدث عن حالة الطوارئ بل بقي على حاله، ولم يتحدث عن النظام لكن سار على درب نظامه.
كلما دعونا إلى إبطال التمييز الإثني والعرقي والديني لدمجه في وحدة الجمهورية كان فشلا، لأن قضية الاندماج في فرنسا ليست طبيعية، عكس التجربة البريطانية
وحالة اليسار، في هذا المشهد كما في غيره، معتادة معروفة مألوفة، تجريد اصطلاحي، «مفهومية» كما يقال في مصر، بحث دائم عن الشعار الأنسب لطرح أنصاف أفكار لأن الأنصاف الأخرى، أي أرضية التطبيق على حالات ملموسة، دائما مغيبة .»كيف نصل إلى الهدوء أهم من الدعوة إلى التهدئة» يقول جان لوك ميلانشون زعيم فرنسا العصية.. لكن السؤال بقي على حاله منذ نصف قرن، بل أكثر. وكلما انخرطت الجمعيات ومجالس الأحياء والشباب ومربوهم في مشاريع، لا يأتيهم دعم، لا مادي ولا معنوي، وكأن الخطة المتماسكة لتحديث الأحياء التي كان روج لها وزير المدينة الأسبق جان لوي بورلو، هو الذي اشتهر أيضا بتكثيف التعاون بين الشمال والجنوب خاصة في مشاريع تزويد مناطق العالم المنكوبة بالماء الصالح للشرب، رميت في مزبلة التاريخ حكومياً. كلما دعونا إلى إبطال التمييز الإثني والعرقي والديني لدمجه في وحدة الجمهورية كان فشلا، لأن قضية الاندماج في فرنسا ليست طبيعية، عكس التجربة البريطانية، طالما لن تطبق الشرطة الفرنسية الاندماج، بل الاستعلاء والإقصاء، سيستمر شباب في انتهاك المحظورات، وطالما ستتمسك العصابات في الأحياء الأكثر عرضة للهشاشة الاجتماعية، «سادة» ثغرات الجمهورية المكفول لها إصلاح التفاوتات السكنية ثم المدرسية، ثم السكنية ثم التأهيلية، سيستمر منطق الانتهاك في إغراء هؤلاء الشباب. وطالما سيردد المسؤولون السياسيون مقولة «النظام» بمفهومها الأمني من دون الغوص في أبعادها الإصلاحية، سنشهد دوريات تمردية متعاقبة أخرى.
دوريات تمردية.. كأن صار المفهوم مكيفا مفصلا ليستدل به على سمة تبدو عضوية في هياكل النظام الفرنسي. حينها، تفشل الدعوة إلى المطالبة باستعادة النظام، كما تفشل الدعوة إلى إسقاطه، وحدها تصح الدعوة إلى إصلاحه، على شرط أن يتم ذات الإصلاح فعلا. وعنوان هذا الشرط أن يجري البحث في مفاصل سياسة النظام بدل المتاجرة بنظام السياسة. والأيام بيننا.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي