نظرية الأنشوطة والطريق للهلاك

جُبِلَ الإنسان على السعي وراء عيشة هانئة هادئة، يحاول فيها أن يوفر سبل الراحة، وينأى بنفسه بعيداً عما يدور حوله من مشكلات وأزمات. فالشخص العادي يستحسن فكرة تولية الأمر لأصحاب الأمور، والاستكانة في ركن خاص به بعيداً عن الأحداث، كمحاولة للاستمتاع بما تبقى له من وقت في نهاية اليوم، بعد سعي دؤوب وراء لقمة العيش. وبينما يرتكن الفرد العادي إلى حياته الهادئة، هناك حرب طاحنة تدور بين أقطاب العالم، من شأنها أن تؤثر فيه وتغير من سلوكه، وفق أهواء من يضعون سياسات العالم، ليس فقط لعقود، بل أيضاً لقرون مقبلة، بدون أن يدري الفرد السبب وراء ما يطرأ عليه من تغييرات.
وفي ظل الصراع العالمي حول السلطة والزعامة، أخذت الصين تتسلل إلى جميع أنحاء العالم، لتتغلغل فيه، وهي ترتدي قناع الأم الحنون والصديق الصدوق لكل فرد، سواء أكان غنيا أم فقيرا، فتغرقه بمنتجاتها المتنوعة التي تتناسب وكل الأذواق والمستويات، وتغرق الأسواق بنسخ متعددة للمنتج العالمي نفسه، وفق مواصفات تنقل المشتري من الماركة الأصلية إلى الماركة المقلدة بنعومة. ومن ثم، يسعد الثري بما يقتنيه من منتج لماركة عالمية أصلية صنعت في الصين، وكذلك يملأ الفرح قلب الفقير، عندما يجد نفسه يمتلك منتجاً تقليدا لماركة عالمية. وعلى هذا، صار المستهلك يبحث عن المنتَج الصيني، مثلما يبحث المنتِج عن نقل مصانعه للصين، التي تتمتع بوجود أيدي عاملة معتدلة الأجور، ومدربة على أعلى مستوى، وكذلك تتوافر منها أعداد غفيرة في مكان واحد. وبهذا، صارت الصين «المصنع» الذي يحتضن سكان العالم بأسره؛ سواء أكان منتِجاً أم مستهلكاً.
جعلت الصين من قوتها الصناعية الناعمة سلاحاً يغزو العقول قبل الجيوب، فرسخت في أذهان سكان العالم، لعقود طويلة، أنها الملجأ الآمن. وبعد أن استقرت على عرش الزعامة الصناعية والتجارية، بدأت الصين في توطيد علاقتها بعالم البرمجيات، والدخول لعالم الرقمنة من أوسع أبوابه. فصممت بدائل لجميع البرامج والتطبيقات العالمية؛ ليس فقط لتصدرها للعالم، لكن لتكون البديل التي تمنحه لشعبها عن البرامج والمواقع التي صممها الغرب ونشرها في العالم بأسره، في حين حجبتها الصين عن شبكات الإنترنت المحلية. ولما وجدت الصين «مصنع العالم» أن المجال الإلكتروني والعالم الافتراضي صار ركيزة أساسية، أخذت تطور من تلك الصناعة الناشئة، لدرجة أن المواقع الخدمية الصينية، صارت تستقطب الملايين يومياً من سكان الكوكب، على الرغم من أن الصينيين ممنوعون من الاشتراك في المواقع والتطبيقات المنتشرة على شبكات العالم الغربي؛ لأن الصين قامت بحجبها، لاعتبارها تهدد الأمن القومي.
وبهذا الانغلاق شبه التام، صارت الصين والأحداث التي تدور فيها محجوبة تقريباً عن العالم؛ فالجهات الرسمية هي من يعلن الأخبار ويحجبها. والنتيجة، صار من الصعب التكهن بالخطوة المقبلة التي سوف تتخذها الصين. ثم جاءت اللحظة الحاسمة حين أطلقت الصين مبادرتين رائدتين في وقت متزامن. الأولى كانت مدّ شبكات الجيل الخامس للإنترنت للعالم بأسره، بأسعار كالعادة تنافسية جداً، حتى في غياب المنافسين؛ لأنه لا يوجد أي من الدول الغربية قد قام بتطوير شبكات الجيل الخامس على النحو الذي طورته الصين، بل يتطلب الأمر من العالم الغربي البحث والدراسة للتوصل للنتائج الصينية، مع وجود معضلة عدم توافر العناصر اللافلزية بالقدر الكافي، و قلة المصانع التي تنتجها نظراً لخطورتها في العالم الغربي، في حين أن كل تلك العناصر متوافرة بغزارة وسعر زهيد في الصين.

أما بالنسبة للتطبيقات الصينية، فهي وسيلة لجمع بيانات المستخدمين، فهي وسائل تجسس متطورة. وللأسف، لم يتعظ أي فرد مما حدث في فضيحة الانتخابات الأمريكية

أما بالنسبة للتصنيع، فقد تعود الصينيون على أبخرة المصانع السامة، بدون غضاضة. أما المبادرة الثانية، فهي إطلاق مبادرة الحزام والطريق التي ظهرت للكون كمبادرة رائدة غرضها إعطاء الفرصة لجميع دول العالم، أن تحظى بالتقدم والثروات، من خلال مساعدة العالم أن يصير شبكة تجارية عملاقة، بلا حواجز أو قيود على أرض الواقع، كما سيؤول إليه الحال، حين تربط شبكات الجيل الخامس العالم المرقمن ليصير وحدة واحدة. وبتلك المبادرة تظهر الصين للبعض كدولة ذات نوايا حسنة للجميع، في حين أن كلا المبادرتين تمنح الصين القدرة على حصار العالم على أرض الواقع، وفي العالم الافتراضي، ليصير العالم سجنا كبيرا لا يملك مفاتيحه إلا هي فقط. فعند مد شبكة الطرق التي تربط دول العالم سواء من البر والبحر، تشترط الصين أن تنشر قوات لها في جميع تلك المناطق، ما يعني أن قواتها العسكرية سوف تطوق العالم بأسره، أضف إلى ذلك، تستهدف الصين جميع الموانئ الاستراتيجية، لتجعل منها جزءا من مبادرة الحزام والطريق؛ فبجانب الموانئ الآسيوية، نجد أنها مدت مبادرتها للدول الأوروبية المتعثرة مثل اليونان وإيطاليا، ونفذت مشروعها على أفضل الموانئ لديهما. المشكلة تكمن في أن الدول المتعثرة لا تنظر إلا تحت قدميها، ولا تنظر لما يحدث في المستقبل. فإذا تم اتخاذ سريلانكا كمثال حي لسيناريو المستقبل، نجد أنها تعثرت في سداد أقساط القروض التي أخذتها من الصين، وفق اشتراكها في المبادرة.
فما كان من الصين إلا أن خلعت قناع الطيبة والنية الحسنة، واستولت في المقابل على أفضل موانئ سريلانكا الحيوية. وفي ما يبدو أن هذا المصير ســـوف تواجهه كل من إيطاليا واليونان قريباً.
أما بالنسبة للتطبيقات الصينية، فهي وسيلة لجمع بيانات المستخدمين، فهي وسائل تجسس متطورة. وللأسف، لم يتعظ أي فرد مما حدث في فضيحة الانتخابات الأمريكية، عندما قام الفيسبوك ببيع بيانات المستخدمين لشركة كامبريدج أنالاتيكا Cambridge Analytica البريطانية التي قامت بتحليل بيانات المستخدمين، تحليلاً نفسياً وإحصائياً، وبهذا استطاعت أن تقلب سير الانتخابات لصالح دونالد ترامب. فلو كان ذلك ما يحدث من مجرد الاستيلاء على بيانات مستخدمي أحد التطبيقات الكبرى، فإن الوضع سيصير كارثيا، عندما تكون الصين هي المتحكمة في شبكة الإنترنت في العالم بأسره.
لعل الجميع يتذكر أن المشكلة التي كانت تؤرق العالم، قبل تفشي فيروس كورونا، هي أن من يتحكم بشبكة الإنترنت، لديه القدرة على شل جميع مناحي الحياة في العالم، بضغطة زر واحدة. فماذا سيكون الوضع لو تم إغلاق شبكة الإنترنت العالمية بالتزامن مع توقف الصين «مصنع العالم» عن إمداد الشعوب باحتياجاتها، وكذلك أعطت الأمر لقواتها المنتشرة وفق مبادرة الحزام والطريق براً وبحراً، أن تصوب أسلحتها لجميع سكان العالم؟ في ما يبدو أنه يجب إعادة النظر في أمور كثيرة، خاصة أن فيروس كورونا الذي شل العالم بأسره في وقت واحد، ودمّر اقتصاده هو سيناريو مصغر لما الصين قادرة على فعله بالعالم مستقبلاً.

٭ كاتبة من مصر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية