أكثر النظريات أهميةً وأقدمها عمراً هي تلك التي موضوعها الواقع، وما فيه وما عليه من قضايا ومسائل فكرية وجمالية، لها صلة مباشرة أو غير مباشرة بالحقيقة هدف الفلسفة الجوهري. وما كان لأفلاطون أن يضع تصوراته النظرية حول محاكاة الواقع، إلا لأن التخييل هو القسيم المشترك لأي موضوع من موضوعات الواقع، فهو أساس كل عمل فني وأدبي.
وما دام التخييل يخرق قيود الواقع الشكلية، ويغير هيكيلته ويطورها، فلا فرق في التخييل، إن كان الشعار المعمول به هو الفن للحياة أو الفن للفن.
وما بين نظرية المحاكاة وتنوعاتها في النظرية التعبيرية، والنظرية الشكلية ونظرية الجمال الفني، والنظرية السردية، ونظرية الذكاء الاصطناعي، يظل الواقع هو الميدان الذي عليه تجرى الاختبارات، وهو الوسيط الذي من خلاله تستخلص المحصلات وتستنبط أحكام القيمة.
ومع تنوع النظريات تغايرت المنهجيات الاجتماعية والتاريخية واللغوية والفيلولوجية والنفسية والمعرفية، فصار الواقع متخيلاً سردياً تارة، وتارة أخرى متخيلاً تاريخياً. وغدا التحدي كامناً في عملية التخييل، هل تقع خارج الفن وهي تقدم المعرفة بمعنى أنها تستوعب التجربة الجمالية، مستقلة بنفسها عن الواقع ومكتفية بذاتها؟
لا مراء في أن التخييل عملية ذهنية شاملة مصدرها العقل المفكر، وموضوعها الواقع بمجمله، والفاعل هو الإنسان الذي كلما تحرر من مقاييس الواقع المادية، وفروض المنطق العملية، كان أكثر تخييلاً، واستطاع صنع عوالم جديدة بمواصفات خاصة، تمليها عليه موهبته وطبيعة تجاربه وخبراته. ونتيجة كل تخييل إبداع وما من إبداع إلا هو متخيل، وإذا كان الإبداع هو صنيعة التخييل، فان التخييل هو صنيعة الواقع. ومن ثم لا إبداع يحلق بلا واقع، كما لا تخييل ينطلق دون ذهن بشري يتموضع على أرض الواقع. وما تنوعت صور المذهب الواقعي وصارت الواقعية بلا ضفاف وغدت هي اليوم وغداً بلا انقطاع، لولا هذه المعادلة التراتبية التي لا مناص للإنسان من التعامل معها، فهو قابع فيها ومرهون مستقبله بمعطياتها. وإذا كان التخييل أساس الإبداع، فإن ذلك يكون على درجات تقل وتكثر تبعا لطبيعة المسافة الجمالية الفاصلة بين الواقعي والمتخيل. ولا شك في أن هناك كلمات تترادف مع الثالوث الجمالي (الواقع/ المتخيل/ الإبداع) مثل العالم والفضاء والصياغة والاصطناع والوعي وغيرها، لكنها لن تستطيع أن تحل محلها نظرا لتاريخية هذا الثالوث الطويلة، التي رسخت في معاجم الفلسفة وقواميس الفكر كمفاهيم واصطلاحات لا يختلف اثنان على تجذرها وتأصيلية البنى النظرية القابعة في تضاعيف مدلولاتها، وتبعات كل مدلول فيها على حدة.
وحاول منظرو ما بعد الكولونيالية ابتداع تأويلات، واختراع آليات تعطي لهذا الثالوث توصيفات جديدة، لكنها مع ذلك لا تغير من واقع الحال شيئاً، فالواقع هو الأثفية التي تقابلها أثفية التخييل، ثم يأتي الإبداع ثالث الأثافي المتحصل من تفاعل الأثفيتين معاً. ولا شك في أن الآثار المترتبة على البحث في واحد من هذه الأثافي، سيفضي إلى ثلاثتها، مهما اختلفت زاوية المنظور وطبيعة الظروف وألوان المعالجة وقواعد التوقع.
فلو مثلنا بنظرية الانعكاس التي وضعها لوكاش، استنادا إلى فكر ماركس، وتتبعنا آثارها الجمالية على مستوى الواقع الموضوعي، وإعادة بنائه والموقف منه، فسنجد أنفسنا حتما، متتبعين تلك الآثار على مستوى المتخيل الفني، وعلاقته بالإبداع الجمالي بوصفه إدراكاً واعياً أو غير واعٍ.
ويعد الأدب واحدا من الميادين الخاضعة لنظرية الانعكاس، وتتفاوت أجناسه في تطبيق هذه النظرية، حسب درجة محاكاة الواقع وتمثيل متخيلاته، بدءاً من التسجيل الإخباري التاريخي، مرورا بالتصوير المرآوي والتغريب الشيئي والعجائبي والفانتازي، وانتهاء بالمتخيل العلمي والافتراضي الرقمي.
وما هذا التنوع في طرق إبداع المتخيل الواقعي، سوى توكيد لواقعية التخييل، وأنه ليس مقطوع الجذور عن الواقع، ومن ثم لا وجود لواقع عقيم لا ينتج تخييلا، كما لا وجود لمتخيل يصنع نفسه بنفسه بلا جذور أو قواعد يستند إليها، تاركاً الواقع يموت فنياً. وكيف يموت الواقع وهو المصدر الذي يمد التخييل بالحياة، ويهيئ له وسائل الإبداع؟ وكيف يمكن لأحد أن يلغي دور الواقع في التخييل، أو يقول بموت الواقع وإلغائه، وهو نفسه لا يستطيع أن يثبت بطلان دور العقل في أي عملية من عمليات الإنتاج الفكري للواقع؟
فكرة (موت الواقع) فكرة راديكالية منطلقها مؤامرة الواقع السياسي ضد اللغة، وما ينتج عن ذلك من واقع مصطنع يشي بالحماقة في قبول الانحطاط والدفاع عنه، من أجل التستر على إخفاقات الواقع، وفشل الأيديولوجية وفساد الأخلاق.
من القائلين بموت الواقع عبر اصطناع واقعية جديدة الأمريكي لورنس داوسون Lawrence Dawson(1944) صاحب كتاب «موت الواقع» The death of reality الصادر باللغة الإنكليزية بطبعة أولى عام 1996 ثم بطبعة ثانية عام 2015، ولم يترجم الكتاب إلى العربية بعد. وفيه مزج داوسون بين نظرية السياسة ونظرية اللغة، مبتغياً تقويض السياسة اللغوية للواقع، وما تمتلكه من قدرات ثقافية تؤهلها لبناء واقع مصطنع بفاشية جديدة تستند إلى وسائل الإعلام، وبوجهات نظر متنوعة لها صلة بحياة الناس الاجتماعية والحقوقية المدنية.
والكتاب بفصوله التسعة، يتمحور حول الواقع وما صارت تلعبه وسائل التواصل من قوة سياسية في صنع لا واقعيته، أو ما سماه داوسون متواليات اللاواقعية السياسية التي فرضت صورا اجتماعية مصطنعة لا وجود للمنطق في معانيها وحدودها. وتتضح راديكالية داوسون في هذا الكتاب من المرجع الأساس الذي استند إليه، وهو الفيلسوف لوديفج فيتجنشاين (1889ـ1951) الذي تأثر بشوبنهاور وبرتراند راسل، وترك أثرا قيل إنه يوازي أثر إيمانويل كانط في الفلسفة الحديثة. وقد أفاد داوسون من أفكار فيتجنشاين حول المشكلات الفلسفية الناشئة من سوء فهم منطق اللغة، وأهمية أن تكون لغة الفلسفة لغة اعتيادية، فيها يكون العالم كما هو عليه حاله. فحدود أي لغة هي حدود العالم. وما دام لا وجود لمنطق حقيقي تغدو جميع الافتراضات مفضية إلى قول الشيء نفسه.
وبناء على هذه التصورات قدم داوسون أطروحته، مؤكدا أن اللغة التي تصنع الواقع يمكنها أيضا أن تصنع موت الواقع، ودليله لغة السياسة التي هددت النظرية اللغوية وقوضت أساساتها العلمية. وقد نفى داوسون في مقدمة الطبعة الثانية، أن يكون كتابه في السياسة، بل هو في الفلسفة اللغوية للودفيغ فيتجنشاين، وكيف يمكن أن تكون للحركات والاتجاهات السياسية أدوارها المهمة في إعادة صناعة الواقع في الولايات المتحدة، لاسيما خلال عقد التسعينيات، حين تحيزت السياسة للفساد بممارسات لغوية هيأت المجال لواقع مصطنع اجتماعيا ( socially constructed reality) وأزاحت كثيرا من ثوابت المنهجيات العلمية في الدراسة اللغوية فكان ذلك تطبيقا عمليا لانتقادات فيتجنشاين التي وجهها لعلم اللغة و(أننا لا نستطيع معرفة الواقعية الموضوعية، ما دامت مفاهيمها للواقع متجذرة، وتم إنشاؤهما اجتماعيا).
ولم يوسع داوسون مجال دراسته للواقع واللغة الواقعية إلى الفن والأدب، بل ظل محصورا في إطار السياسة، ما جعل نظريته قاصرة عن إثبات فرضياتها، وتعميم تلك الفرضيات على الثقافة الغربية. ومعروف أن السياسة لغة، والواقع هو الذي يصنع اللغة وليس العكس، ومن ثم يكون أي تجسيد للواقع هو بمثابة تخييل ذهني له، وما التخييل سوى لغة فيها تتجسد الأفكار التجريدية ـ سياسية أو غير سياسية ـ منطوقة أو مصورة.
وقد أعطى داوسون للنظام الأخلاقي مكانة مركزية في هذا الكتاب، منتقدا كثيرا من السلوكيات اللاخلاقية المتدهورة في الغرب، والجرائم التي ترتكب فيه وأثرها في الأجيال القادمة، من قبيل العلاقات بين الجنسين والعنف ضد المرأة، والقرصنة، والقتل العرضي، وإطلاق النار العشوائي وغيرها من ظواهر المجتمع التي تظل النظرة إليها مقيدة ومحددة بافتراض موت الواقع واصطناع واحد آخر بديلا عنه. فكانت توصلات داوسون حول (موت الواقع) في غالبيتها تصب في باب مواجهة الانحطاط والفوضى والانحراف بالالتزام الأخلاقي، وما يطرحه اليمين المسيحي حول الأم وقوانين الحضانة، والتثقيف الجنسي في المدارس ضد المثلية والإجهاض والإيدز، إلخ.
بهذا تكون فكرة (موت الواقع) فكرة راديكالية منطلقها مؤامرة الواقع السياسي ضد اللغة، وما ينتج عن ذلك من واقع مصطنع يشي بالحماقة في قبول الانحطاط والدفاع عنه، من أجل التستر على إخفاقات الواقع، وفشل الأيديولوجية وفساد الأخلاق. وإذ يرفض المؤلف فكرة الواقع ويراها غير مقبولة، فلأن الإشكالية في رأيه لغوية، وهي تؤثر في تقدير الواقع معتبرا ما دعا إليه فيتجنشاين على صعيد اللغة في مقولته (الثورة داخل الثورة) يصلح أيضا على صعيد التفكير في الواقع السياسي وفهم إشكالياته المعاصرة، من خلال اللغة التي غدت مائعة، أو مرنة في معانيها، وصار الواقع الموضوعي منظومة مصطنعة من المعاني اللغوية التي تعطي فهما فوضويا وشعبويا غير مسبوق، وتشي بتحول جذري في مفاهيم مثل الحرية والكذب. وضرب داوسون مثلا بقصة قطار مانهاتن، وسلوك اللامبالاة الذي فيه يموت الواقع ما بين الرجل الأسود، الذي يرفع أصبعه في وجه الشرطي وهو يقول: أنت في ورطة يا رجل، والطفل الذي ينظر إليهما وقد تولدت اجتماعيا في ذهنه مفاهيم تخلط الواقع بالتقاليد، فيبدو الجاني هو الضحية ويصير الواقعي مصطنعا وخادعا، فتختفي الحقيقة في الدفاع عن الكذب. وما هذا الاصطناع سوى تخييل هو رديف الواقع، وليس بديلا عنه ولا يمكن لواقع أن يُصطنع، إلا وهناك واقع آخر مثالي أو غير مثالي هو عبارة عن (ملفوظ واقع مصطنع) بتعبير الناقدة الأمريكية غالبريت، فيه تكون اللغة مولدة على نحو تخييلي، وفق نظرية الإزاحة الإشارية.
وما ينتهي إليه داوسون هو أن (الواقع ما نريده أن يكون) ومجاله في رأيه لا يتحدد في السياسة، وليس في الفن والفلسفة والتاريخ وسائر العلوم الأخرى، التي ما أن نأخذها بالاعتبار حتى تتداعى فرضية موت الواقع، أو الواقع المصطنع أمام فرضية تخيل الواقع، أو الواقع المتخيل التي بموجبها يتعدد الواقع بلا نهائية ومن ثم لا موت للواقع، لاسيما إذا علمنا أن فكرة موت المفاهيم بالعموم عقيمة، وثبت بطلانها كموت الشعر وموت الرواية وموت التاريخ وموت المؤلف وموت اللغة وموت الحداثة، إلخ.
وجدير بالذكر أن لجان بودريار كتاب «الفكر الجذري: أطروحة موت الواقع» وفيه ينطلق بودريار من فرضية اصطناع الواقع، أو الواقع المصطنع بمسائل الواقعية المفرطة والنزعة الاستهلاكية وزيف المحاكاة، وكيف أنها كلها تطمس الواقع وتُميته، ومن ثم لا مرجع أو حقيقة ولا واقع افتراضي. وهو ما ينافي منطقية الأشياء وقوانينها العلمية في النشوء والتجذر، ومع ذلك تظل مثل هذه المحاولات في تفسير ظواهر الواقع وأزماته بمثابة أساليب في التفكير، بما هو ضدي، تقطع براديكالية متزمتة أكثر مما تحتمل، ومن ثم يكون من الضروري أن تختبر الظواهر بمرونة أدبية ونظرة موضوعية.
كاتبة عراقية
عزيزتي الفاضله.. أصبح هنالك الواقع الفائق… لدي بوردليار، إذ يشمل الوهم والخيال والاستعارات وغيرها… مثلها مثل الحقيقه النيتشويه أصبحت الحقيقه غير محدوده … لكن ثورة التكنلوجيا الحديثه جلبت واقعا يكاد يكون هو نفسه وتجدد لكنه مش هو…..
فعلا.. اذا أن نظرية الانعكاس هي العلاقة بين الواقع المادي والحسي، فإننا نقول هذة هي حياة الدنيا علي الارض، أو هي التفاعل بين الإنسان والأكولوجيا حوله بصوره عامه… مثلا تكون علي شاطئ البحر هذا واقع مادي… في لحظه فجائيه يظهر لك تمساح رد الفعل هو الحس الجديد، مثلا انت في غابه هذا وجود مادي واقعي، وظهر لك أسد اعتقد الحس والمشاعر والواقع اختلف… كذلك لوظهر لك قرد… أو عصافير تغرد وتشدو فهذا واقع آخر… الخ…