نقد بلا أثر

أمسى التساؤل عن ظاهرة تراجع نقد الشعر شأنا متعبا ومملا، من كثرة التشديد على راهنيته في مختلف المنابر الثقافية، حيث يسعى كل من الباحث المختص والقارئ المتمرس، إلى استجلاء أسبابه، دون أن ينتهيا بالضرورة إلى جواب مقنع وقار. والحال إننا نعتبر الظاهرة جد طبيعية، حالما نتعامل مع مفهوم النقد بالصرامة المعرفية التي تستدعيها آلية استكناهه لأسرار «القول» الشعري. وهو بالمناسبة «قول» يأبى إلا أن يظل محتفظا بجاذبية غموضه، منذ أن تهجته ألسنة الكائن إلى الآن، حيث يصيب سامعه أو قارئه، بهزة مباغتة، تنتزعه من سكونية العادة ورتابة العرف، كي تضعه في قلب حركية طارئة توقظ لديه أحوالا عجيبة من الانتشاء، يضطر معها إلى تفعيل ميكانيزمات التأويل، باعتبار أن النظام اللغوي الذي يتمظهر به هذا القول، يبدو مختلفا بصورة جذرية عن النظام الطبيعي الذي تشتغل به اللغة المشتركة.

ومن المؤكد أن الملابسات الانفعالية والروحية المؤثرة في إحداث الهزة الناتجة عن سماع القول الشعري، أو قراءته، هي التي ساهمت منذ القدم، في صياغة سرديات متعددة ومتباينة المسارات، والتي يتطلع كل منها إلى تعيين مصدر هذا القول الآخر، من منطلق اقترانه بأصلين متناقضين ومتباعدين، أحدهما يتميز بتعاليه وتساميه، كما هو الشأن في إسناد مرجعية القول لسلطات مقدسة ومتعالية، والثاني يتصف بانتمائه إلى العوالم السفلية التي تهيمن عليها الجن، الشياطين والأبالسة. وفي الحالتين معا يأخذ الشاعر شكل وسيط، ينحصر دوره في تلقي الإلهام من أعلى عليين أو من أسفل سافلين، كي يعيد بث رسائله إلينا من جديد، بما تعنيه الوساطة هنا من انتماء مباشر إلى عوالم ما ورائية، ترتقي به من المستوى البشري إلى مستويات أخرى موسومة بسحرية الغيبي والماوراء. وذلك هو مصدر الرفعة والهيبة التي كان يتميز بها الشاعر في محيطه الخاص والعام، لاسيما بالنسبة للحضارات القديمة.

وفي اعتقادنا أن تداخل الرفعة بالهيبة، هو الأصل في ازدواجية العلاقة التي تربطه بالخاصة كما بالعامة. إنه بهذا المعنى، يحظى بالتقديس وبالاحترام المشوبين بحالة مريبة من التوجس المهيأ في أي لحظة للإفصاح عن عدوانيته. وهي العلاقة ذاتها التي يعاني الشاعر إلى الآن من ضراوة ازدواجيتها، إنه مرحب به حينما تتناغم إيقاعاته مع إيقاعات المحيط، ومطارد بالنبذ حالما تتصادم هذه الإيقاعات في ما بينها. من هنا سيتعذر على الشاعر الاطمئنان إلى وضع مجتمعي/ثقافي ثابت، ما دامت رياح التقلب والخلاف تتحين فرصتها لاقتلاع ما استأنست به الخيمة من أوتاد. فالكلام المقبل من غيب ما، ملائكيا كان أو إبليسيا، الذي تتردد علينا إيقاعاته عبر أصوات الشاعر أو كتاباته، سيظل أبد الدهر محتفظا بغموضه وبالتباسه المريب، ضدا على عنف زمن التقنية المتنكر لكل ما يتعارض مع قوانينه. وفي الآن ذاته سيظل قابلا لأن يحظى إما بافتتاننا أو بنفورنا، تبعا لطبيعة التأثير الذي تحدثه خيمياؤه في الدواخل، وأيضا انسجاما مع مدى قابلية هذه الدواخل لتلقي تأثير خيميائه.

نخلص من هذه الإيماءات، إلى التأكيد على استمرارية تلك الحيرة المضمرة التي ما فتئ الشعر يطوقنا بها، كلما دعتنا الحاجة إلى الاقتراب من مضاربه، أو بالأحرى من متاهاته، ذلك أن حالة الصدمة التي تستبد بالذات، خلال تلقيها لشطحات اللغة الشعرية، المقبلة إليها من الماوراء، مستحثة إياها على مغادرة أنساقها التعبيرية المألوفة، كي تتموضع داخل أنساق مغايرة، قد تسمح لها أو لا تسمح باستكناه دلالة تلك الشطحات التي يتخلخل فيها جسد اللغة، ويأخذ إثرها شكلا مغايرا لما كان عليه من قبل. وسيكون على المهتم بهذا الإشكال، أن يستوعب تداعيات الصدمة التي تحدثها مغادرة المتلقي لنسق لغوي معلوم، وعبوره لعتبة نسق آخر مجهول. وهي بالمناسبة تداعيات على درجة كبيرة من التعقيد والشدة، حيث يمكن رصدها في التلاطم الجارف الذي يضرب خلسة خلجان انفعالاته الداخلية، حتى تضيق بفيضها رحابات الضفاف.

ومن الواضح أن التدبير العقلاني لهذه التداعيات الجارفة تقتضي من المتلقي/الناقد، توافر ما يكفي من الكفايات الروحية والمعرفية لاستيعابها، قبل الشروع في توصيفها منهجيا. وهو الأمر الذي سيظل باستمرار في حكم الاستحالة. فثمة نقاد يعيشون رجات هذا المخاض دون أن يتمكنوا من القبض على شعريته، فيما آخرون، يحترفون فعل توصيفه دون أن يخالجهم أي دبيب محتمل من أحوال الرجة الشعرية. وفي الحالتين معا، يظل العمل الشعري المعني بالمقاربة محتفظا بتمنعه، وفي منأى عن مراوداتها. وهي الظاهرة السائدة عموما في علاقة العمل الشعري بالنقد، التي يطغى عليها هوس الناقد بإثبات أحقية انتمائه إلى هذا الجنس الأدبي الضارب بجذوره في تربة الأزمنة الميثولوجية. إنه بهذا الانتماء الذي لا يمتلك الحد الأدنى من شروطه، يتطلع إلى مزاحمة الشاعر في الوضعية الاعتبارية التي يحظى بها، بوصفه الناطق الرسمي بألسنة الأرواح اللامرئية.

ثم إن ما يضاعف من تأزيم النقد، رغم تجديده لإواليات قراءاته وتأويله، هو عجزه عن مجاراة التحولات الحثيثة التي تتميز بها مسارات الشعر. لذلك، ليس غريبا أن تتحامل عليه أكثر من جهة، وبأكثر من حجة وذريعة، نكاية في تعاليه والتباس لغاته، إلى درجة اتخاذها لقرار فك ارتباطاتها التقليدية والحداثية به، كي تقتصر المواكبة النقدية في أحسن الأحوال على منهجية التصنيف الباردة، التي لا تكلف الناقد أي مجهود يذكر. وهي منهجية شاملة جامعة، تعفي القراءة مشقة التورط في تقليب تربة النص، وفي قياس حدوده الدلالية، وضبط شعرية مكوناته.
ولعل من أهم مقومات هذه المنهجية التصنيفية، اشتغالها بالعناوين الفضفاضة، من قبيل، «قراءة في الشعر العربي الحديث»، «قصيدة النثر العربية»، «شعر الهايكو من المحيط إلى الخليج». وفي أحسن الأحوال، مقاربتها للمتون الشعرية تحت يافطة المدارس والمذاهب، على غرار: «قراءات!» في الشعر الرومانسي الحديث، الكلاسيكي أو السريالي. والشيء ذاته يمكن ملاحظته بالنسبة للمقاربات المنصبة على الأجيال الشعرية.
وفي كل هذا وذاك، يتم اعتماد صيغة عشوائية في اختيار النصوص المعدة لعملية التصنيف، ما دامت قراءتها ستخضع حتما لتوصيفات مسكوكة، ومؤثثة بما يكفي من الحذلقة النظرية، الحريصة على تكديس ما أمكن من مقولاتها، والتي تلزم نصوصها على التماهي في ما بينها، بصرف النظر عما يتخللها من اختلافات وقطائع، كما لو أن الأمر يتعلق بمتن شعري مشترك، ساهمت في تدبيج نصوصه لائحة طويلة وعريضة من الأسماء المجردة من هويتها الشعرية، التي غالبا ما يخضع انتقاؤها لمعايير قرابات وحسابات، لا صلة لها مطلقا بجوهر الكتابة. وأمام هذه الوضعية العجيبة، سيظل الشاعر وحده المؤهل دون غيره للكشف عن أسرار نصوصه، وطبعا، طي ما يكتبه من نصوص ستظل في اعتقادنا عصية على الخطابات النقدية المتهافتة، التي أراها قد ولت وجهها شطر أجناس إبداعية أخرى، بعد أن وجدت فيها ضالتها المنشودة، وبعد أن أوصدت منازل الشعر أبوابها في ما تبقى من وجوهها، ومن وجودها.
*شاعر وكاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية