في الثاني من حزيران/يونيو 1967، جلس الزعيم الهُمام يترأس اجتماعا عالي المستوى مع القيادات العسكرية العليا في الجيش المصري، وأخبرهم أن العدو الإسرائيلي سوف يشن هجوما جويا خلال يومين أو ثلاثة أيام، فبدأ الاستعداد، وتم حشد القوات الفنية، وتجمعت ألوية الطرب، ومعها كتيبة الرقص، لتُحيي حفلا غنائيا راقصا في التاسعة مساءً، في أكبر القواعد الجوية المصرية، جاءت الأخبار بتحليق طائرتين للصهاينة في سماء غزة التابعة للإدارة المصرية، لكن ذلك لم يمنعهم من استكمال الاستعدادات القصوى للحرب، التمايل مع أصوات المطربين والتلوّي مع حركات الراقصات، حتى الصباح.. الصباح الأسود.
نكسة 5 يونيو، التي ضاع فيها الشباب في الصحراء تحت وابل النيران، وضاعت فيها فلسطين، بل ضاعت فيها الأمة، بشرذمة من ثُلّة زعماء لا علاقة لهم بالزعامة، الذين لم يفلحوا إلا في الخطب الحماسية التعبوية من نوع: «سنلقي إسرائيل في البحر»، ليُلقوا بشعوبهم وهيبة بلادهم في قعر محيط الخيبة والهزيمة.
هذه الخيانة مات أصحابها، وتركوا لنا حصادا وافرا من الذل والعار، فانكسرنا، وتحطمنا، وتلك كانت غاية العدو، كما يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي: «لم يكن هدف إسرائيل توسيع حدود بقدر ما كان تحطيم روح تخشاها».
لم يفصل بين انكسارنا في النكسة، وانكسارنا اليوم، سوى حرب 73، التي خسرت فيها إسرائيل رجالا وعتادا، وخسرنا فيها نحن عزا وكرامة وقُدسا لم يحافظ عليها الساسة على طاولات المفاوضات، مفاوضات الحملان مع الذئاب.
كيف يُعذر حكام العرب في تلك النكسة، ولم يكن هناك شيء قد تبقى ليؤكد أن الحرب ستندلع، كانت الحدود مشتعلة آنذاك، ونذر الحرب تعالت صيحاتها، وعبد الناصر أغلق مضيق تيران، والاشتباكات المتقطعة تجري بين الإسرائيليين والسوريين، لكن لم يتحرك أحد. لم تتحرك القوات، رغم أن محطات الرادار على جبل عجلون بالأردن أرسلت في صبيحة اليوم الأسود، إشارة للقوات المصرية بأنها رصدت أعدادا من الطائرات الإسرائيلية، لكن أحدا لم يتحرك. أبواق النذير لم تنطلق في القاهرة، إلا بعد عشرين دقيقة من بداية القصف الإسرائيلي على المطارات.
وماذا كانت تفعل طائرة المشير في سيناء، التي لم تجد لها مكانا تهبط عليه لأن المطارات قصفت، هل كان رفيقه الزعيم ينوي التخلص منه، وهو يعلم بالضربة الجوية؟ ماتوا وماتت معهم الحقيقة، فارقوا الحياة ولم تفارقنا نحن المآسي.. بعد النكسة كانت اللافتات تعلق في مطاعم وفنادق دول الغرب مكتوب عليها «ممنوع دخول العرب والكلاب»، حيث تنكرت لنا تلك الدول الكبرى التي ارتمينا على أعتابها وأيدناها في مواقفها، وانطلقت المظاهرات المؤيدة للانتصار الصهيوني الساحق على العرب. وخرج كعادة النكسات دجالون، اصطادوا في الماء العكر، فكما يقول اللواء الركن محمود شيث خطاب: بعد نكسة عام (1967) تعالت أصوات عربية مريبة، تدَّعي بأن أسباب النكسة تمسك العرب بالدين، وبأن من أسباب النصر التخلي عن الدين. وذلك رغم الاتجاهات التي غزت الوطن العربي والتي ولّت ظهرها للدين، وأغرقت البلاد في أحدث الصيحات الفكرية الأجنبية.
لكل نكسة دجّالوها، وكان من دجالي نكسة حزيران، قلم عبد الناصر، كاتب كل العصور والرؤساء، محمد حسنين هيكل، الذي رقص على دماء الشباب الذي اقتيد إلى الموت، وأعد المسرحية الهزلية التي أعلن فيها جمال عبد الناصر، تخليه عن كرسيه بعد النكسة، بكلام عاطفي أبكى الشعوب العربية المغرر بها، ليعود بعدها بساعات إثر مظاهرات مدبرة تنادي بعودة الزعيم الملهم، الذي لم ينتصر في حرب خاضها، عاد، ورقص الناس لمن أذلهم وبعثر كرامتهم، رقصوا لبطل حرب الست ساعات. تقول الأديبة والصحفية صافي ناز كاظم في الخديعة الناصرية: «كان أهم ما أبدع فيه هيكل هو إعلانه أننا انتصرنا في الحقيقة – رغم خسارة الرجال وضياع الأرض – ونصْرنا هو: إن نظام عبد الناصر لم يسقط، وبالفعل صرنا نحتفل بعيد النصر رغم الهزيمة».
مرت سنوات وعقود، ونحن نعيش في ذكرى هزيمة يونيو، نكسة جديدة، نكسة وعي وانتماء وهوية، حين نحّيْنا الصديق ونصبناه عدوا، وأدنينا العدو المغتصب وجعلناه صديقا، نعيش أشد النكسات، إذ كانت الحكومات العربية في الماضي تسترزق في التباري برفع شعار القضية الفلسطينة والقدس الشريف، أما اليوم، فحتى الشعارات والكلام المنمق عن الأرض المغتصبة لم يعد يهمهم، أوحلوا في التطبيع، وأطلقوا عبيدهم وأبواقهم ودجاليهم يروجون للتطبيع، في وقت تتأهب فيه حكومة الاحتلال لضم منطقة الأغوار والمستوطنات بالضفة الغربية، ليصل الضم إلى ما يزيد عن 30% من مساحة الضفة المحتلة.
نعيش نكسة التطبيع الذي تولى الدعوة إليه رموز سياسية وكُتّاب ومنابر إعلامية ناطقة ومروجة لسياسات حكوماتها العربية
نعيش نكسة التطبيع الذي تولى الدعوة إليه رموز سياسية وكُتّاب ومنابر إعلامية ناطقة ومروجة لسياسات حكوماتها العربية، تعمل على إمضاء صفقة القرن وإنهاء القضية الفلسطينية، على وضعية عار وذل، يتحدد فيها مصير من يملك، على يد من لا يملك. ولما كانت الإمارات أبرز هذه الدول المُطبِّعة مع الكيان، فقد أطلقت أحد أبواقها لمزيد من الترويج للتطبيع في ذكرى النكسة، لتنكأ في الجراح، ضاحي خلفان رئيس شرطة دبي السابق، يكيل لنا النصائح، فما هي توجيهات حكيم الأمة «خلفان»؟ يطالبنا ضاحي خلفان بالاعتراف بدولة إسرائيل، إذ عدم الاعتراف بتلك الدولة القائمة على العلم والمعرفة والازدهار والروابط الوثيقة بكل دول العالم المتقدم، حاجة لا معنى لها، من أنتم يا من لا تعترفون بدولة في مكانة إسرائيل العلمية؟ هكذا يخاطبنا حكيم قومه. يُطالبنا «خلفان» بأن نعيش مع اليهود كجيران وأبناء عمومة، ولا ينسى في المقام أن يشعرنا بضعفنا وقلة حيلتنا مقابل قوة أبناء عمومتنا: «اتركوا العنتريات اللي انتم مش قدها». ضاحي خلفان يفضّل أن تظل فلسطين قلب الأمة في يد الصهاينة، على أن يتولى أمرها العرب: «لو أعيدت فلسطين للعرب بتصبح خرابة مهدمة بين حماس وغيرها». بل يرى المطالبة بدولة فلسطين جريمة تجلب الويلات للفلسطينيين، فينتقل أمرهم من أصحاب القلب الرحيم (الصهاينة) إلى القساة المتوحشين (حماس): «من يطالب بدولة للفلسطينيين يريد الويل للفلسطينيين، الفلسطيني في كنف اليهود أرحم من وجودهم في كنف حماس». ولأن ضاحي خلفان من بلاد الذهب الأسود، فهو يغري الخليج بمستقبل اقتصادي مزدهر، إذا ما تمت المصالحة مع الصهاينة: «تصالحوا مع إسرائيل سيرتفع حتى النفط».
يا خلفان، إن رضيت بأن يقتحم أحدهم بيتك عنوة، ويفرض عليك أن يعيش بين أهلك ونسائك ويعطيكم حجرة تعيشون فيها ويتحكم في كل شيء، فنحن لن نرضى بأن يعيش المحتل الغاصب في أرضنا، وبين حرائرنا ويأكل خيراتنا. يا خلفان، هي ليست مشاجرة بين شابين في مقهى نقول فيها (الصلح خير يا شباب)، هي أرض وعرض ومقدسات، وحق مغتصب، هي مسألة كرامة وشرف لا يعرفها من رضي باحتلال جُزُره الثلاث ويتبادل التجارة مع سارقه. يا خلفان، إن فتحنا صفحة جديدة مع العدو، فكيف سنطوي صفحات المقاومة والأنفس التي أزهقت من أجل التحرير، ماذا سنقول للنساء الثكالى اللاتي استشهد فلذات أكبادهن دفاعا عن القدس والتراب الفلسطيني منذ عقود حتى اليوم؟ ماذا سنقول لليتامى الذين حُرِموا من آبائهم بسلاح الصهاينة؟ وماذا نقول للأجيال القادمة إن تخلينا عن فلسطين قلب الأمة فصرنا بلا قلب؟
ضاحي خلفان نموذج من أولئك الذين تطلقهم الحكومات العربية لإخماد تلك الجمرة في الوجدان العربي والإسلامي، والعمل على تبديد مركزية القضية الفلسطينية في قلوب الشعوب، تمهيدا لإغلاق هذا الملف على النحو الذي يرضي السادة الكبار، ويحفظ عروش الأتباع العملاء. هؤلاء الدجالون الذين يمارسون دجلهم على الشعوب، الملكيون أكثر من الملك، المتصهينون أكثر من الصهاينة أنفسهم، حُق لمالك بن نبي أن يقول عنهم: «إننا لنهتف لنشر قائمة أصدقاء الصهيونية في العالم الغربي المعلقة على جدران شوارعنا». ولكن… عفوا أين قائمة أصدقاء الصهيونية الذين يتفسحون في شوارعنا؟ والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية
الفقرات الأولى من المقال من أروع ما قرأت ..كيفية الاستعداد للحرب ووضع الخطط ورص الصفوف ودراسة الهجوم وكيفية الرد لدى الجيش المصري ورئيسه
صناعة الطغاة وجعلهم ابطال كانت الطريقة المثلى لأن تضمن الدول الإسعمارية تمكن رجالاتها من حكم البلاد بعد جلائها بان يهرب البريطاني وينتصر المغوار الهمام ليصبح بطلا قوميا ـ أنظر عبد الناصر يهزم بريطانيا وفرنسا وإسرائيل سنة ٥٦ وله في الحكم سنتين بينما ينهزم ـ كش ملك ـ من دولة صهيون وحدها وله في الحكم ١٥ سنة ـ مهزلة ـ. أما لا صوت يعلو فوق صوت المعركة فما كانت إلا خديعة لإسكات المعارضة ليس الا. كان رجل يعشق الخطابات ويمتليء بالنشوة كلما طال انتظار الجماهير لخطابه الفارغ ونفس الشيء حصل مع أتاتورك رجل بريطانيا . لا مقارنة بين البطل أردوغان وهؤلاء الطغاة فخطاباته دائما تأتي بعد الاعداد وفي عهده انتقلت تركيا الى مصاف االدول العظمى في كل المجالات بينما هؤلاء الطغاة صنعوا نكسات وشعوبهم ترزخ تحت الفقر وبعضهم ينام في المقابر. كان يجب محاكمة قائد النكسة أمام الملأ ولكن الشعوب كانت مغيبة.
الامارات العربيه نموذج في الرقي والتقدم كما كانت يوما الكويت نموذج للعرب .. فالوصايه و التوريث هما اخطر انواع الدود لانه دود يخرب و يفسد الثمر من الداخل .. وهذا اصلا ما قاد العمل مؤخرا في لعبه ثنائيه على تصفير السعوديه وتحييد مصر واخراجها من اللعبه لنتورط باردوغان
كلمة نكسة
هي من ابتداع هيكل
لتخفيف كلمة هزيمة وتمريغ رأس عبد الناصر بالوحل..
نكسة كأنها كبوة ينهض بعدها الفارس الهمام والزعيم الملهم ليحقق النصر ويتغلب على العدو
لايوجد هكذا مصطلحات سوى في قواميس قرامطة العرب ( القومجيين )..
هناك … نصر
او …..هزيمة
ولا يوجد خيار ثالث للأسف.
نكساتنا عمرت كثيرا مع الأسف وحان للعزة أن تترجل وما تجربة غزة العزة عنا ببعيدة رغم الصعوبات والمعوقات والطعنات ،ولكن يبقى الأمل ماثل بنا أو بغيرنا فهذه الأمة قد تمرض ولكنها لا تموت ولا تنتهي إلا بنهاية الدنيا ، وأما هؤلاء التائهون فستعالجهم الأيام والليالي .
ان فلسطين وديعة محمد (صلى الله عليه وسلم.) عندنا.وامانة عمر (رضي الله عنه) في ذمتنا.وعهد الاسلام في اعناقنا فلىءن اخذها اليهود منا ونحن عصبة انا اذا لخاسرون)
الشيخ العلامة محمد البشير الابراهيمي (رحمه الله)
فلسطين قلب الأمة وبوصلتها.. خالص الاحترام والتقدير لاصحاب الاقلام الشريفه وعلئ راسهم الكاتبه احسان الفقيه..
جزاك الله خير الجزاء وغفرلك ولوالديك امين
خدعوا ملايين العوام بتاريخ الزعيم الكرتوني عبدالناصر الذي ملأ جعبته هزائم وذهب وترك لنا مآسي وهزائم لا تنسى
#هزيمة_67
بورك هذا اليراع وكاتبته
#معركة_الوعي واحدة من أهم المعارك قبل المعركة الكبرى الفاصلة بين الحق والباطل.
بعد أكثر من 53 سنة على هزيمة 67.. هناك ألغاز وأسئلة ملحة لا تزال دون جواب
عبد الناصر تنحى عقب الهزيمة قبل أن يعود إثر مظاهرات وصفت بالمُعدّة مسبقا
ظل حسين الشافعي -نائب الرئيس عبد الناصر – يطالب بفتح ملفات هزيمة 67، وكشف كل تفاصيلها وإلقاء الضوء عليها، محذرا من خطورة استمرار طمس أوراقها.
وقبلها تحدث عن وقائع وأحداث كثيرة جرت في حرب 67 ولا تزال غامضة فظلت مع مرور العقود مجهولة التفاصيل.. احاول ان اطرح الأسئلة على قراء صحيفة القدس العربي الغراء ومتابعي الكاتبة الفاضلة احسان الفقيه لعل احد منهم يعطيني إجابة شافية .. – وحتى لا أطيل- سأحاول تقسيمها إلى عدة تعليقات وأرجو من إدارة الموقع النشر مع الشكر والتقدير..
ومات الشافعي عام 2005، وقبله لقي جل قيادات الجيش المصري التي شاركت في الهزيمة ربها وبقيت أحداث كثيرة غامضة، لا تزال تشكل ألغازا عصية على التفسير، برغم صدور كتب ومذكرات حاولت ملامستها.