تعيش غزة زمن النار والمقاومة بلا هوادة، وبشكل غير مسبوق، وزمن تجلي الحقد الإسرائيلي الأعمى، الذي ظل مكتوماً ورغبة مضمرة في الانتهاء من كل ما اسمه فلسطين أو فلسطيني حتى باللجوء إلى المحو بالوسائل التدميرية العسكرية أو بالقنبلة النووية التي اقترح استعمالها وزير من حكومة نتنياهو. وما يدور على الأرض لا يدع مجالاً للشكل في عملية الإبادة النازية. من هنا، من يتأمل الوضع في غزة سيشعر حتماً، بدون عميق تفكير، بشيئين واضحين ومتناقضين في الآن نفسه، يتداخلان معاً؛ بالألم الشديد الذي وصل إلى الأقاصي غير المسبوقة، وتدمير وحرق مدينة من مليونين ونصف على سكانها. ويشعر بالفخر الكبير لأن مجموعة من المقاومين (الإرهابيين في الفهم الغربي الاستعماري الذي تقف وراءه الصهيونية كمؤسسة عنصرية وإجرامية) البسطاء لا يملكون إلا وطنيتهم وإيمانهم بأن الحرية حق، وحملوا رهانهم الأوحد وهو الدفاع عن أرضهم ومكاسبهم وقوميتهم ودينهم حتى آخر قطرة من دمهم. يقفون في حالة ملحمية بأجسادهم في مواجهة دبابات الميركافا الضخمة التي لا تهزمها الأسلحة التقليدية. قدموا مثالاً رائعاً في الشجاعة والشهامة، وفي التعامل مع سجنائهم بشهادة السجناء أنفسهم، بتحضر ورقي. كشفوا بذلك عورة نتنياهو والتحالف اليميني الديني المتطرف الذي ينتظر تنفيذ رؤيته التلمودية المغلقة التي لا تترك أي فرصة لا للحوار ولا للمسالك السلمية التي لم يعد يذكرها أحد من الدول العظمى وأمريكا تحديداً، الوحيدة التي بإمكانها إجبار إسرائيل على الانصياع والاستماع لصوت الحق الذي لا يعينها مطلقاً. وفي هذا انفردت، في عصرنا، بإعادة ما كانت ضحية له: الهولوكوست ومحرقة الظلم. قد لا تكون لهذه العصابة من القتلة مع ضحايا المحرقة، لكن من الناحية الرمزية للأسف، يتداخل المفهومان عموماً، ولو أننا نرى اليوم في شوارع العالم من ينادون بالحق الفلسطيني وتوقيف الحرب الظالمة التي تجاوز عدد ضحاياها الـ 25 ألفاً.
وفي هذا السيل العدواني الأعمى الذي لا يحكمه أي ضابط سوى تنمية الكراهية ورعايتها، برأ نتنياهو النازية وهتلر من ارتكاب الهولوكوست ضارباً عرض الحائط بكل الجرائم العرقية والدينية والإنسانية النازية، فقط ليلصق ذلك كله بالفلسطيني على أساس أن الشيخ الحسيني هو من أوحى إلى هتلر بفكرة المحرقة. وكأن النازية ليست رؤية للعالم مبنية على العنصرية واحتقار الشعوب الأخرى، وأن هتلر لا ينتظر في فعله الإجرامي إلا املاءات الحسيني؟ تتخفى وراء ذلك رؤية صهيونية جديدة وشديدة الخطورة تبرئ أوروبا الاستعمارية كلياً من جرائمها وتربط معاداة السامية بالعرب والمسلمين الذين كانوا ضحايا الحربين العالميتين اللتين انتهتا بتشريدهم وتمزيق أراضيهم. هذا سقف الصهيونية المعاصرة التي تجير التاريخ لحاضر يخدمها بالتشويه المعلن والواضح. الغريب هو في ذلك، الصمت العالمي تجاه جرائم غزة وتجاه أيديولوجية شديدة الخطيرة كالتي ذكرناها، بما في ذلك ألمانيا التي اعترفت بجرائم النازية واعتذرت لليهود وقامت بالتعويضات المفروضة عليها. على ألمانيا إذن أن تفتح بوابة التاريخ من جديد لتقول للعالم إن النازية بريئة، وإنه لا وجود لها، وإن كل ما حدث يتحمله العرب والفلسطينيون والشيخ الحسيني، إنه لا مسؤولية لها فيما حدث، وإن كل التعويضات التي منحتها للصهيونية تعاد لها؟ هل وصلت البشرية إلى هذه الدرجة من الانهيار والانحطاط؟
هذه الخطابات المفبركة لم تزد المقاومين (حماس، سرايا القدس، الجبهة الشعبية وغيرهم) إلا الذهاب إلى أقصى درجات نكران الذات والمقاومة، مهما كانت فداحة التضحيات. بعد أربعة أشهر، لا يبدو أن المقاومة عجزت عن فرض نفسها، ولا نتنياهو استمتع بالانتصار الذي افترض أنه لا يتخطى عتبة الساعات القليلة، وإنقاذ سجناء الحرب الذين قتل نصفهم بـ «الضربات الصديقة» من طرف جيش من «الزعران» لا يملك أية أخلاقيات عسكرية كلاسيكية. جيش مؤدلج وإجرامي، يقتحم المساجد والكنائس، وينبش القبور ويستمتع بقتل النساء والأطفال. فضحت المقاومة كل هذه الممارسات العسكرية. الجيش العظيم الذي لا يقهر غرق في أوحال وشوارع غزة على الرغم من قوته العسكرية الكبيرة. نفس المقاومة فضحت أيضاً الغرب الاستعماري النائم على عقده التاريخية التي كان سبباً فيها، ومنها المحرقة. وأظهرت بشكل واضح الفوارق بين غرب رسمي متواطئ مع القتلة، وغرب مدني تحرر من فكرة معاداة السامية، التي تحولت على ورقة لتكميم الأفواه، بعدما عاش بشكل واضح جرائم إسرائيل وكذبها.
من أكبر مزايا المقاومة في النهاية، أنها أعادت فلسطين إلى الواجهة، وأصبحت قضية إنسانية لدى كثير من البلدان الأوروبية والإفريقية، إذ لا يمكن شراء الضمير الإنساني بسهولة. صحيح أن الجرح كبير والثمن غال؛ 25 ألف ضحية، أكثر من نصفهم نساء وأطفال أبرياء، ومجازر يومية بمعدل 200 شهيد لم تحرك لها الدول العظمى ساكناً، لكن الأصح أيضاً وحدة المقاومة والتخطيط لأوضاع أخرى. أصبح أكثر من حتمية، وما كان سائداً قبل الحرب، لن يستمر هذه المرة. كيفما كانت محصلة هذه الحرب، لن يكون الفلسطيني والعربي كما كان. ما كان أسطورة قبل الحرب، أصبح مجرد آلة يمكن تدميرها بصاروخ يدوي اسمه «الياسين». لا مستحيل.