نهاية الدهشة بداية الألم.. يوم غصّ آدم بقطعة تفاح

لا يعرف الأطفال الخوف، يولدون مغمورين بالدهشة التي تذكرنا بآدم قبل أن يتناول الثمرة المحرّمة، في الجنة طفولة دائمة لا (هرم ولا كبر ولا هــــموم) فالأشجـــار تســـمع وقطوفها الدانية تلبي الرغبات قبل نطقها. إن جنة الطفولة هي الانخراط بسهولة في الحديث مع زهرة أو قطّة أو غيمة. و«أليس عبر المرآة» للويســـــ كارول تقـــــول أليس موجهة حديثها لزهرة تتمايل برشاقة مع الريــــاح: يا زنبقة النمــــر، أتمنى لو كنتِ قادرة على الكلام! أجابت زنبقة النمر «بل نحن الزهور قادرات على ذلك، حين يوجد شخص يستحق أن نتكلم معه».
في الطفولة هناك منطقة ثالثة، عين سحريّة (تدعى الحدس الذي من أهم مكوناته الدهشة، وتلقي الأشياء في حقيقتها الصافية بدون أحكام، حيث تقدم لنا ذاتها ببساطة) سيعمل المجتمع جاهداً على تفتيتها لصالح العقل – سهل الانقياد للأيديولوجيا – أو الغريزة – التي هي عماء كليّ، والتي تُنظم وتقونن ضمن المسار المرسوم لها ـ إن التخلي عن الحدس والدهشة والتآلف مع العادة، أولى علامات دخول عالم الكبار ومنظومتهم البائسة، وفقدان لغة الزهور والطبيعة. فقدان التناغم مع الوجود، يعني خسارة مغامرته التي وجدنا لخوضها. وهذا يترتب عليه ضياع للذات. كان العالم – في نظر الطفل وهو هنا فينومينولوجي عتيق ـ طفل مواز ـ فهو لا يحتاج اللغة لفهم معادلاته السحريّة؛ حتى أن أليس في مرحلة صاحت (يا للعجب الأعجوبيّ) يعلق لويس كاورل قائلاً، «كانت قد انتابتها دهشة شديدة إلى درجة أنها نسيت كيف تتحدث بلغة سليمة». لا تمايز ولا لغة حيث الطفل لا يعرف الشخص الذي سيكونه، فلا توجد أحكام ولا تأويلات، هناك انخراط لذيذ في المغامرة والاكتشاف بدون خوف. قال طائر الدودو «أفضل السبل لفعل أي شيء أن نفعله». لا تمايزات عرقية ولا طائفية، ولا تأويلات ولا تقسيم هوياتي أو جندري، سهولة عقد الصداقات في الطفولة، الناجم عن عدم وجود أفكار مسبقة؛ إلى أن يأتي الشيطان كعراب للأخلاق. فهو الذي يفرض علينا بناء الجدران. والتخلي عن طفولة الروح. وهو، أي الشيطان، قد أحدث الاضطراب بإغواء حواء لتتناول الثمرة المحرمة. وبعدها ساد الهلع فآدم غص بتفاحته وما زالت آثارها في رقبته كما يعد الطمث دليل إدانة لحواء (من التوراة).
في البلوغ يتم الانتقال من جسد الطفل إلى جسد البالغ. من حديقة الأزهار السحرية المتكلّمة إلى الغابة الغامضة، لنتأمل التالي: وفي رحلة أليس عبر المرآة وبعد أن تتجاوز حديقة الزهور السحرية المتكلمة، تدخل الغابة وفي هذه المرحلة فإن من شروط دخول الغابة أن تنسى اسمها (وهذا يعني فقدان الذات والهوية) قالت الغزالة بصوتها الناعم الرقيق: ما اسمك؟ فكرت أليس المسكينة: أتمنى لو أعرف. وتابعت بصوت يكتنفه الحزن (لا شيء في هذه اللحظة. وهي شبيهة بلحظة السقوط من الجنة! إن ردّ الفعل الأول هنا، ضياع صورة الأنا، ونسيان الاسم، وتقبل الهوية التي تمنح لنا.

أن تغامر في الوجود يعني أن تهدم الجدران التي يبنيها الخوف. كي تكون ذاتك. أن تتعلم من الطبيعة فضيلة الاختلاف. قالت أليس وقد شرعت في البكاء «أنا حقيقية» علق تويدل دي قائلاً: لن تجعلي نفسك حقيقية أكثر بالبكاء، لا داعي للبكاء بل علينا القيام بالمغامرة بأن نكون أنفسنا».

فالطفولة انتهت وهناءتها حاذت الأفول، ولتعزيز الخوف لا بد من التذكير بالموت-في الموت إهانة للجسد تتمثل في فنائه وتبعثره – إن الخوف هو بداية السقوط في خسارة مغامرة الوجود، التي هي هبة تولد معنا تتمثل في الفضول والدهشة والتناغم مع الكائنات، ويبدو الخوف كصاعقة مباغتة في رواية «على سرير فرويد» للكاتبة نهلة كرم، ينساب الخوف كالماء من اللاوعي. يبدأ الخوف من العزل بين الأولاد والبنات، ومن خلال ذكريات البطلة نتحرك في جو خانق. الخوف من القبلة التي يقوم بها رجل غريب من خلف سياج لطفلات بوضع لسانه في أفواههن، الخوف من الإيدز، الخوف من فقدان غشاء البكارة. إنها كتلة من الخوف والمتمثل في الحظر الجنساني على جسدها، من أن تكون ذاتها، وحين تتعرض للتحرش في الباص تقابله بأقصى درجات الصمت. يبدو الخوف في هذه الرواية متغلغلاً في طبقات الوعي واللاوعي، لدرجة أنها تحلم برجل فيقنّع اللاوعي الرغبة ويرسل لها زميلتها في العمل – اللاوعي الذي من المفترض ان يكون حراً من أي رقابة.

إنه خوف طاغ لا حد له

أحد نتائج الخوف أن نتحول إلى رقم، في مقطع له دلالاته، تكتشف أليس وحين تنتقل إلى حفلة الملكة: أن لا وجود سوى لأرقام (وكان رقم سبعة يقول لا شأن لك يا رقم اثنين، ورقم خمسة يجيب، بل من شأنه وسأخبره بالسبب). قالت أليس بشيء من الخجل: هلا أخبرتموني، لماذا تطلون هذه الورود؟ لم ينطق رقم خمسة ورقم سبعة ببنت شفة، وتحدث رقم اثنين بصوت خفيض: كان ينبغي أن تكون هناك شجرة ورد أحمر، وقد وضعنا شجرة ورد أبيض عن طريق الخطأ، ولو اكتشفت الملكة هذا فستقطع رؤوسنا جميعاً.
في عالم الكبار لا يُقبل أي اختلاف، وحين تشارك أليس في لعبة الكروكيت السخيفة تقول لنفسها برعب وهلع «ماذا سيحدث لي؟ إنهم مغرمون هنا غراماً مرعباً بقطع رؤوس الناس، وها هو الأرنب يتقمص دور المستجوب لأليس التي بدأت تعتاد أن تقول غير ما تفكر به – هل أحببت الملكة؟ قالت آليس – إطلاقاً، في منتهى…. وعندئذ فقط لاحظت أليس أن الملكة كانت تقف خلفها على مقربة منها، وتنصت لما تقوله، فمضت تقول (البراعة، فنكاد لا نريد أن نكمل اللعبة لأننا نعرف أنها ستنتصر علينا). ليس من حق الروح أن تنمو حيث يسود الخوف ـ قالت أليس بوداعة شديدة: لا حيلة لدي فأنا أنمو.
قال الفأر النعسان )ليس من حقك أن تنمين هنا)
أن تغامر في الوجود يعني أن تهدم الجدران التي يبنيها الخوف. كي تكون ذاتك. أن تتعلم من الطبيعة فضيلة الاختلاف. قالت أليس وقد شرعت في البكاء «أنا حقيقية» علق تويدل دي قائلاً: لن تجعلي نفسك حقيقية أكثر بالبكاء، لا داعي للبكاء بل علينا القيام بالمغامرة بأن نكون أنفسنا».
أن نعيد للطفولة ما سلبته العادة وأن ننخرط في الوجود ونستعد لدفع الثمن. في «ألعاب العمر المتقدم» للويس لانديرو كان جواب الشيطان على سؤال ما الذي يناسب الإنسان أكثر أهي السعادة أم القدر؟ التالي: ربما إذا كان قوياً المجازفة بأن يكون نفسه وإذا كان ضعيفاً يستلقي للراحة في التخيل. نضحي بمغامرة الوجود ونخترع عوضاً عنها مفاتيح وهمية. نبحث عن السعادة خارجاً مع أن الوصفة السحرية وعلبة الدواء في متناول أيدينا. ربما علينا أن نتوقف حالاً عن طلي جميع الورود بلون واحد.

٭ كاتبة سورية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نبيل أدهم:

    مقال مميز…

إشترك في قائمتنا البريدية