تعد الحرب الروسية ضد أوكرانيا زلزالا حقيقيا في العلاقات الدولية، ومنعطفا يحمل تبعات جيوسياسية في أعمق معانيها، فالعالم مقبل على تطورات قد تكون غير مرتقبة، ويمكن اختزالها في الجملة التالية «التاريخ لا ينتهي، لكن النظام العالمي ينتهي ويتغير» أو «نهاية النظام العالمي واستمرار التاريخ» حيث سيظهر نظام عالمي جديد.
ساد الاعتقاد في الأوساط السياسية والأكاديمية طيلة عقود، بما في ذلك إبان الحرب الباردة باستحالة حدوث أحداث كبرى، لاسيما في القارة الأوروبية أو الغرب وروسيا، تجعل مسار التاريخ يتغير، كما حدث في حقب تاريخية غير بعيدة مثل الحرب العالمية الثانية، أو الثورة الشيوعية سنة 1917.
ويعود هذا الإحساس إلى عاملين، الأول وهو نفسي، فكل جيل يعتقد أنه يعيش «جمود التاريخ» وتوقف ديناميته. وهذا إحساس ترجمه بطريقة غير موفقة الأكاديمي الأمريكي فرانسيس فوكوياما، في كتابه «نهاية التاريخ» عندما تحدث عن سيادة النظام الليبرالي إلى الأبد. وعلى الرغم من عدم صوابية هذه النظرية وتراجع صاحبها عنها، يستمر الإحساس المترتب عنها مهيمنا حتى تقع الأحداث الكبرى، وتشكل مفاجأة، بينما هي لا تعد مفاجأة نهائيا، بل مظهرا من مظاهر دينامية التاريخ. ويتجلى العامل الثاني في تراتبية خطيرة يشهدها عالم إنتاج الأفكار، إذ أن الغرب يعد المنتج الرئيسي للأفكار، وغالبا ما يفكر ضمن رقعة جغرافية محددة وهي الغرب ومصالحه، في حين يعتبر ما يجري في مناطق أخرى ثانويا، ويبدو أن الرأي العام في الغرب يكتشف الآن المعنى الحقيقي للحرب، التي شنتها الولايات المتحدة ضد العراق، بعدما وقف على مرارة الغزو الذي تتعرض له دولة أوروبية، وخطر امتداد هذا الغزو إلى دول أوروبية أخرى. في الوقت ذاته، بدأ هذا الرأي العام يكتشف الحقيقة المرة لقضية اللاجئين، وإن كان البعض يتعامل معها بعنصرية «اللاجئ المسيحي أشقر العيون» القادم من أوكرانيا و»اللاجئ المسلم الأسمر» القادم من اليمن وأفغانستان. ولعل أبرز مظهر سلبي في التفكير الغربي، هو أنه في العشرينيات وبداية الثلاثينيات من القرن العشرين، أي السنوات التالية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، بدأ التفكير الجيوسياسي ينتعش، كانت أغلب الدراسات تشير إلى سيادة السلم ودخول العالم مرحلة جديدة، ونسي مفكرو تلك الحقبة، خاصة المشاركين في صناعة القرار كيف كان نصف العالم يغلي للتحرر من الاستعمار في القارة الآسيوية والافريقية، وكيف كانت اتفاقية فرساي ممهدا لأسوأ حرب عرفتها البشرية.
ستحمل الحرب الحالية الروسية الأوكرانية تأثيرات كبرى تمس أساسا الغرب، الذي بدا ضعيفا أمام روسيا في أوروبا
غياب فهم دينامية التاريخ هو أخطر ما يمكن أن يواجهه المفكرون والدول، لاسيما أولئك الذين يجهلون مدى تأثير أحداث الماضي، ويعتقدون في عدم تكرارها، ثم أولئك الذين يعتقدون في وقوع التغييرات الجيوسياسية على مستوى الأقطار، أو الجهات أو العالم في المدى البعيد، أي لا يمسهم بل سيمس الأجيال اللاحقة.
لقد راكم العالم منذ بداية القرن الجاري، أي خلال 22 سنة، الكثير من الأحداث التي رسمت مسيرة هذا الجيل بقوة، وستتسبب في الكثير من الأحداث الكبرى على المدى القريب والمتوسط والبعيد، لأنها تركت جروحا لم تندمل، علما أن عدد من الثقافات والأوطان لا تنسى مآسي الماضي، التي تسبب فيها الآخر. وننظر كيف تطالب الجزائر فرنسا بتصحيح مآسي الاستعمار الفرنسي، بل كيف تطالب المكسيك إسبانيا بتصحيح مآسي استعمار يعود إلى خمسة قرون. ومن هذه الأحداث الرئيسية التي تراكمت وراكمت معها جروحا، التفجيرات الإرهابية في 11 سبتمبر/أيلول، ثم غزو العراق من طرف الولايات المتحدة وبريطانيا، وانفجار الربيع العربي، ثم الظهور القوي للحركات القومية المتطرفة في الغرب التي تنهل من الفكر النازي، وانفجار سباق التسلح بشكل مثير، نظرا لارتباطه بعودة حماية الأمن القومي إلى أجندة الدول، والصراع الهندي – الباكستاني وأخيرا جائحة فيروس كورونا، علما بأن البشرية كانت تعتقد أن التقدم الحاصل في الطب سيجنبها حدوث جائحة من هذا النوع.
هذه التطورات تقع في كل وطن وفي كل منطقة مثل العالم العربي، أو جنوب أمريكا، أو منطقة الساحل الافريقي أو شرق آسيا أو… وإذا لم ينفجر ملف وطني سينفجر ملف إقليمي أو دولي وعالمي. ولعل الأزمة الحالية الروسية – الأوكرانية تعد مثالا ساطعا في هذا الشأن. ساد الاعتقاد بأن النزاع الروسي – الأوكراني تحت السيطرة ويخص دولتين فقط، وعلى الرغم من الإرهاصات الخطيرة التي كانت تتبلور، فضل العالم البقاء في «منطقة الارتياح» حتى تفاجأ بأزمة تعيد الحرب إلى قلب أوروبا، لترتفع أصوات «المفكرين الكسالى» قائلة «لا أحد كان ينتظر عودة الحرب إلى قلب أوروبا في القرن الواحد والعشرين». كما ترتفع أصوات كسالى آخرين تربط ما يجري بطموح الرئيس فلاديمير بوتين. وارتباطا بهذا، بدأ يتناسل عدد من التقارير التي تعالج نفسيته وطريقة تفكيره، لتقديمه في حلة تقترب من «هتلر» في حين أن الأمر يتعلق بالأمن القومي لروسيا، الذي يتجاوز بوتين نفسه، فقد طرح وبقوة وقلق كبيرين مسألة توسع الحلف الأطلسي الرئيس السابق بوريس يلتسين، رغم محاباته للغرب، وسيطرحها كل رئيس روسي قادم بحثا عن توازن أمني. ستحمل الحرب الحالية تأثيرات كبرى تمس أساسا الغرب، الذي بدا ضعيفا أمام روسيا في أوروبا، لكن لا ننسى أن الولايات المتحدة ستتصرف بالطريقة نفسها، إذا هددت دولة من أمريكا اللاتينية أمنها القومي. وكانت واشنطن مستعدة لحرب نووية كونية سنة 1962 عندما أراد الاتحاد السوفييتي نشر صواريخ نووية سوفييتية في كوبا، وعاش العالم ظروفا مثل الحالية، لكن من دون غزو أمريكي لكوبا في آخر المطاف.
هذه الحرب التي تبقى واحدة من الحروب التي يشهدها العالم، إلا أن الاهتمام الفائق بها يعود الى مسرح وقوعها: أي أوروبا، ثم التغيرات الجيوسياسية التي تترتب عنها، لاسيما على الغرب ومنها نهاية النظام العالمي الجديد في حلته التي كان عليها منذ بداية التسعينيات، تاريخ انهيار جدار برلين، تؤكد استمرار دينامية التاريخ ومدى تأثير الأحداث المتسلسلة في نهاية نظام عالمي وظهور آخر. حرب أوكرانيا – روسيا تأتي لتؤكد: «نهاية النظام العالمي واستمرارية التاريخ».
كاتب مغربي من أسرة «القدس العربي»
عنوان المقال عميق، والأفكار عميقة، شكرا على هذا المقال
مقال شيق و غني،شكرا للكاتب
هذه الحرب لم تكن لتكون حتمية لو تحلت الأطراف المتصارعة ببعض الحكمة وبعد النظر…فأوكرانيا ما كان عليها الدخول في لعبة شد الحبل مع روسيا مع وجود اختلال كبير لموازين القوى بينهما، وكان الأجدر أن تتقبل عدم إمكانية ممارستها لسيادتها كاملة (بالانضمام للنيتو ) على السيناريو الذي تعيش على وقعه البلاد حاليا
المضحك المبكي في الأمر أن أمريكا وأوروبا العنصرية المنافقة ظلوا يستغلون خيرات الشعوب المستضعفة هذي سنين وسنين،. ماذا فعلوا بتلك الأموال، و ها قد حانت ساعتهم سيعودون إلى القرون الوسطى دون أدنى شك لا غاز لا بترول ومصانعهم لا تشتغل من دونها،. والله يحرر فلسطين ويكسر شوكة إسرائيل كسرا لا جبر بعده أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا أبدا قولوا آمين يارب العالمين
روسيا أول بلد سيعترض على تحرير فلسطين ويدافع عن اسرائيل دفاعا مستميتا
تحليل جد ممتاز استاذ مجدوبي ،اعزك الله كلما اتحفتنا بتحاليلك الشيقة .شكرا
وهل يمكن ان يكون هذا التوتر بين الدولتين , سببا في استيقاظ النزاعات الماضية التي كانت في حالة ركود بين دول اخرى؟
مقال رائع و الشكر الجزيل للكاتب