مرحلة تلو أخرى، يتضاعف الوعي باحتمال بلوغ أزمة القراءة الفكرية والإبداعية مداها الأقصى، بموازاة تفاقم ظاهرة العزوف عن اقتناء الكتب ذات الصلة، حيث تتقلص تباعا نسبة سحبها إلى مستوياتها الأكثر تدنيا، كي يقتصر توزيعها بالكاد على العلاقات القريبة جدا من محيط المفكر أو المبدع.
والغريب في الأمر بالنسبة لبلدان العالم العربي، أن هذا التدني الموحي بقرب حدوث قطيعة مأساوية بين القراءة والكتابة، يتزامن مع تضخم ظاهرة القول بحتمية اندماج المفكر والمبدع، في الأجواء السحرية التي تدعو قيم الحداثة وما بعدها إلى تبنيها، وأيضا، بتواز مع تعميق النقاشات الدائرة حول المقتضيات الجديدة، التي يفترض في تجربة القراءة أن تلم بها.. وهي مقتضيات تستند أساسا إلى أرضية توافر الشروط الفكرية والمعرفية لدى القارئ، كي يرتقي بتلقيه إلى الآفاق المضيئة التي تستشرفها وتطرحها أسئلة الحداثة وما بعدها.
وضمن هذه المفارقة، سيكون من حق الملاحظ أن يطرح هو أيضا سؤاله التالي، ما الجدوى من المبالغة في وضع الشروط التعجيزية للحصول على القارئ النموذجي، في ظل العزوف الكبير الذي تعاني منه القراءة؟ الذي يساهم في تحجيم وتضييق دائرة توزيع الكتاب، ثم ألا يمكن اعتبار هذا الإفراط في مراكمة الشروط المعرفية الواجب توافرها في تجربة القراءة، أحد أهم الأسباب المؤثرة في تنفير القارئ من الكتاب ككل، وتيئيسه من متعة القراءة، بعد تحولها إلى حزمة اشتراطات لا قبل له بها؟
وسعيا منا إلى وضع الملاحظ في صلب الإشكال الذي نحن بصدد معالجته، سنحاول تناول الموضوع من جانب مختلف، قد يبدو من حيث الظاهر غريبا عنه، فيما هو أحد وجوهه الأساسية. وسبيلنا إلى ذلك، التطرق إلى إحدى أهم القضايا الملحة التي وضعتها الرؤية التحديثية للكون ككل على رأس أولوياتها، والمتمثلة في تبسيطها لمسطرة التعامل مع العالم، كي يكون رهن إشارة الكائن، بما يعنيه ذلك من إحكام سيطرته العقلية والتقنية، على كل من الإشكالات الملموسة والمجردة في أن الدائرة في فلكه، كي تترسخ لديه القناعة التامة بأنه الوحيد الذي يحتل مركز الكون دون منازع. كما لو أن الأمر يتعلق بتحقيقه لأمل انعتاق نهائي من قسوة الأزمنة البائدة، التي طالما أربكت حركيته بتعقيداتها، وعمقت لديه إحساسه الشامل بضآلة شأنه، ومحدودية قدراته العقلية والجسدية، على المستويات كافة. ومن أبرز تجليات هذه السيطرة، تدبيره لإكراهات المعيش، بأقصى ما يقتضيه الأمر من دقة وسلاسة ومرونة، بصرف النظر عن طبيعة هذه الإكراهات. تقنية كانت فكرية، أو تواصلية. ذلك أن السلاسة، هي اللغة المشتركة التي تتوخى الحداثة تعميمها على ساكنة الأرض، في مختلف المجالات الحياتية، حيث أمست الغاية المتوخاة من كل التطبيقات والبرمجيات التقنية والعقلية، رفع جميع العوائق والحواجز، التي من شأنها تعقيد حركية العالم وتعطيلها.
تلك إذن هي الوجهة التي يبدو أن العالم قد حسم أمره في شأن اختياره لها، بفضل الاتساع المذهل والمتسارع للحقول العلمية والتقنية، وبفضل تنامي مجالات اختصاصاتها واشتغالها.
إنها على سبيل المجاز، صيغة تحديث منهجية السير على البرزخ، بقدم واحدة، وعين مغمضة تماما. كما هي صيغة ناجعة للارتقاء بالواقع إلى مستوى الحلم، حيث قارات المعمورة قابلة طواعية واختيارا، للاندماج في ما يشبه قرية معدنية، لا أصداء تشي بصرخات ساكنيها، وحيث يكون بوسع الفضول، أن يحيط بكل كبيرة وصغيرة تحدث في الأرجاء. وقولنا بسريان مفعول سلطة هذه السلاسة المذهلة، في تدبير ما يجدّ من تقنيات متطورة «التي لا تستثنى منها حتى الشعوب المتخلفة» لا يمكن أن يحجب عنا تلك المفارقة الطريفة، والمتمثلة في الجهد المعرفي الكبير، الذي يساهم في خلق وإبداع هذه التقنيات، والذي دون مهاراته العالية، ما كان لشعوبنا المتخلفة أن تحظى بالتفاعل السريع والمرن مع عوالمه الموغلة في الدقة والإبهار. بمعنى أن الأصل في السلاسة التي تدير بها الشرائح المجتمعية، العوالم التقنية الصادرة عن مختبرات العلوم الدقيقة، لا يعود إلى بساطة تصنيعها، بقدر ما يعود إلى توظيفها لأرقى مستويات مهارات التصميم، الكفيلة بتبسيط مسطرة التفاعل معها، وبأقل مجهود تقني أو فكري، ولعل تعميم هذا التفاعل، هو الذي ساهم أولا في إلغاء الحدود المرسومة عادة بين الخاصة والعامة، فضلا عن مساهمته ـ وهذا هو المهم – في توسيع آفاق الابتكار التقني، بفعل استقطابه الكوني للخاصة والعامة، وانعكاس مردوديته العملية والملموسة عليها.
كل إهمال أو تجاوز للمقوم التداولي – وخاصة منه المنتمي لقطاع القراءة الذي يعنينا بالدرجة الأولى في هذا السياق – سوف يعتبر حتما، بمثابة إقرار رسمي بانسداد الدائرة على ذويها، وبلغة أكثر وضوحا، هو إقرار ضمني بنهاية زمن القراءة، بما يعنيه من نهاية حتمية لزمن الكتاب، فكريا كان أو إبداعيا.
وهنا تحديدا، يكمن مربط الفرس، أي أن الأمر يتعلق أساسا بضرورة توافر وتكامل شروط الاستهلاك السلس والمرن، بالنظر لتأثيره المباشر في ارتفاع نسبة الإنتاج، فضلا عن الدور الكبير الذي يلعبه توسيع وتعميم مجال الاستعمال والاستهلاك التقني، في تطوير آليات إبداعه، سواء على المستوى الوظيفي أو الجمالي.
ولربما قد يستغرب البعض من قراءتنا للمنجز الفكري والإبداعي، على ضوء المنجز التقني والعلمي، لأنه قد يرى فيه نوعا من الخلط اللامنطقي واللاموضوعي، بين مجالين جد متباعدين، إن لم نقل متعارضين، حيث تضرب جذور المنجز الأول في تربة العصور القديمة، فيما تبدو جذور المنجز الثاني معلقة في سماء «الهنا والآن» ورغم تسليمنا مبدئيا بمشروعية هذا الانتقاد، إلا أنه لن يلبث أن يتراجع أمام مقاربتنا، حالما نضعه في إطارها المركزي الذي أملاه علينا السياق، والمتعلق بالبعد التداولي للمادة، سواء بوصفها نصا إبداعيا، أو بوصفها منتوجا آليا ذا طبيعة تقنية صرفة. بمعنى أننا شئنا أم أبينا، مطالبون بالتأمل أولا في علاقة استهلاك المادة، باستمرارية حضورها. ثم ثانيا، بما يتيحه هذا الاستمرار، من إمكانيات تطويرها تجاه آفاق أكثر تقدما وحداثة، خاصة أن القصد من إلحاحنا على مفهوم الاستهلاك، هو إثارة الانتباه إلى أهمية تلك العلاقة التفاعلية الخلاقة القائمة بين كل من الذات القارئة للنص، والذات المستعملة للآلة. ومن وجهة نظرنا، فإن كل إهمال أو تجاوز للمقوم التداولي – وخاصة منه المنتمي لقطاع القراءة الذي يعنينا بالدرجة الأولى في هذا السياق – سوف يعتبر حتما، بمثابة إقرار رسمي بانسداد الدائرة على ذويها، وبلغة أكثر وضوحا، هو إقرار ضمني بنهاية زمن القراءة، بما يعنيه من نهاية حتمية لزمن الكتاب، فكريا كان أو إبداعيا.
فهل يعني ذلك، أننا نهيب بالكتابة كي تسير على نهج التقنيات الدقيقة، قصد البحث عن حل ممكن لأزمتها الخانقة التي تتخبط فيها؟ وذلك بإعادة النظر في صيغة تصميم البنيات التعبيرية، الفكرية والجمالية، أسوة بمراعاة التصاميم في إنتاج السلع الإلكترونية؟ طبعا نحن لا نملك جوابا جاهزا لهذا السؤال المحرج، باعتبار أن اشتغال قوانين التقنيات الآلية والإلكترونية، يختلف جذريا عن اشتغال قوانين الكتابة، حيث سيكون من الصعوبة بمكان، التوفيق في النصوص الإبداعية الكبيرة، بين ما تتميز به من عمق معرفي وجمالي، وسلاسة وسهولة تداولها على مستوى القراءة.. لاسيما وأننا جد حريصين على الاستبعاد الجذري والقاطع، لكل توجه شعبوي يدعو إلى استسهال الكتابة الإبداعية والفكرية، والزج بها في فضاءات الابتذال، تحت ذريعة تعميمها، وتمكينها من قوتها التداولية، ولو أننا في الوقت نفسه، نشعر في قرارة أنفسنا بأننا مقبلون تقريبا، على توديع زمن الكتاب إلى غير رجعة.
هكذا إذن وكالعادة، سوف يجد المثقف العربي – مفكرا ومبدعا- نفسه محروسا بأطياف الحيرة وأشباحها، واجما أمام جدار مفارقات لا وجود لها في فضاءات العالم المتقدم. ذاك الذي تفتح فيه المعارف مسالكها للقراءة، بالسلاسة نفسها التي تفتحها أمام كل تدبير طارئ لتقنية آلية، مستجدة ولا متوقعة.
شاعر وكاتب من المغرب
الكتاب الورقي مكانته محفوظه، ولكن الكتاب الإلكتروني حاز علي المكانه الثقافيه، انا مثلا امتلك مكتبات الكترونيه في غايه الأهمية في شتي ضروب العلم والمعرفه..
جميل جدا.
مادة للتفكير.
فما بالك اننا نعيش ازمة قراء ه وابداع بغض النظر عن التطور التكنولوجي والاستغناء عن الكتابة والابداع.
سنودع هذا العالم قبل ان نبدا به كما ودعنا عوالم اخرى.