لدينا اليوم ذاكرة جمعية رهيبة الأسى، تجمعنا، توحدنا، تربط على قلوبنا برباط وثيق، حين عجزت كل العرى الوثقى المهمة من أن تجمعنا أو توحدنا أو تربط على قلوبنا. لم تستطع وحدة اللغة ولا قرب الدين ولا تشارك العادات والتقاليد ولا تماثل الأصول من أن توحد شعوب الأمة العربية أو تقدم لها قصة ثقافية تقوى تماسكها أو تصنع لها قضية توحد قلوب شعوبها. ورغم أن فلسطين كانت دوماً تجمعنا، ورغم أن وقائع جرائم الإبادة المستمرة منذ 1948 بدءاً بمذبحة دير ياسين ومروراً بمذابح الطنطورة وكفر قاسم وخان يونس وتل الزعتر وصبرا وشاتيلا وجنين، على سبيل الأمثلة لا الحصر، كانت دوماً تحرق قلوبنا وتوجع ضمائرنا الغافلة، إلا أن الوحدة دوماً ما كانت عزيزة، لتتفرق بنا السبل وتتفرع بنا الطرق حتى تجاه قضيتنا العربية والإنسانية الأولى، وليستمر اتساع الهوة حاضراً تجاه تلك القضية بين أقصى صور المساندة إلى أقصى صور الغدر والتطبيع.
ثم كانت «محرقة» غزة في السابع من أكتوبر والتي اختلفت عن سابقاتها من حيث توثيقها، من حيث ورودها لنا لحظياً بالصوت والصورة لتفضح ما كان مخفياً، ولتدفع بنا لمراجعة قصص الوجع السابقة التي ما رأيناها ولا سمعناها ولم نكن قادرين في يوم على تخيل بشاعتها، ليعاد إحياؤها لنا بتفاصيلها الموجعة عبر مجزرة غزة الحالية. ها هي تلك القصص التي ظنها الصهاينة طي الكتمان التاريخي والنسيان الإنساني، ها هي تأتي لنا صوراً بالألوان، مسترجعة ذلك الزمن الذي كان التوثيق فيه عزيزاً والصور فيه غائمة، ها هي صور مجزرة اليوم تذكرنا بأننا لم نحزن ولم نغضب ولم نتأس ولم نساند ولم نرفض ولم نرفع القضايا ولم نعتصم ولم نحشد ولم نثُر كما كان يجب أن نفعل إبان كل مجازر الأمس، فقط لأننا لم نرها رأي العين، ولأننا لم نتمكن من تصور درجة البشاعة والوحشية. ها هي الدلائل تصل اليوم لتجمع قلوب ليس فقط العرب، ولكن لربما كذلك البشر بأجمعهم على مجموعة من الصور والعبارات والكلمات والصرخات التي لا يمكن نسيانها أبداً. وعلى الرغم من اختلاف واختلال المواقف الحكومية، نشعر نحن الشعوب أن الصور والفيديوهات وكل الدلائل المرئية والمسموعة القادمة لم تجمعنا وترقق قلوبنا وتحيي إنسانيتنا وتوعي عقولنا فقط، ولكنها أيقظتنا من غفلة، نومة عصر طويلة قميئة ثقيلة الوطأة على أرواحنا وأجسادنا.
اليوم حتى لغتنا تغيرت، اخترقها الوجع لتصبح محشوة بعبارات وإشارات الألم والفقد، بصرخات الاستغاثة، بتعبيرات القوة والصمود، وبكلمات عشوائية يفترض أنها تمر بطبيعية أو حتى بمرح، إلا أنها الآن تمر على ألسنتنا ومن خلال مسامعنا بحرقة ووجع. «يوسف، شعره كيرلي وأبيضاني وحلو»، من كان يصدق أن عبارة عادية مثل هذه ستمسك بتلابيب القلب حتى تصبح كل كلمة مثل دبوس حار يخترق أرواحنا؟ اليوم أصبحت لغتنا مصورة مرئية، نرى الصورة ما إن نسمع كلمات توصيفها. انطبعت الكلمات صوراً وفيديوهات في الوجدان حتى أصبحنا نحفظ المشاهد، نعرف الأشخاص والخلفيات المدمرة حولهم وألوان ملابسهم وتعابير وجوههم المطحونة بالعذاب والألم. «الله يسهل عليك يابا، لا تتركيني لحالي يما، الأولاد ماتوا بدون ما ياكلوا، يا كمال يا كمال، كنت بدي أعمل لها عيد ميلاد، روح الروح، هاي أمي بعرفها من شعرها، بينتقموا منا بالولاد-معلشششششش، خليه في حضني، عصفور بالجنة يما»، كل عبارة من هذه العبارات مرتبطة بصورة واضحة في الذهن، نكاد نرى الوجوه المعصورة بالألم على الخلفيات المعجونة بالدمار، ونكاد نسمع العبارات صوتاً هاتفاً في أرواحنا دون أن نحتاج لرؤية صورة أو تشغيل فيديو. هذه العبارات التي هي نقطة في بحر ملايين الكلمات والجُمل والتعابير والصرخات والهتافات الغزاوية هي اليوم جزء لا يتجزأ من لغتنا وثقافتنا العربيتين، بل هي جزء لا يتجزأ من الخطاب الإنساني الذي بات يردد هذه الكلمات مترجمة إلى لغات العالم أجمع وقد وحدتها بشاعة هذه التجربة الوحشية التي تمر بها الإنسانية كلها اليوم على يد الكيان الصهيوني.
انطبعت مشاهد أوجاع غزة الرهيبة جزءاً أصيلاً من ذاكرتنا ومن ثقافتنا ومن وعينا الجمعي. من عاش هذه الكارثة، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، لا يمكن أن يكون هو ذاته الذي عاش قبلها، لا يمكن أن تكون روحه ذاتها، ذاكرته ذاتها، أو تقييمه للحياة هو ذاته. كلنا اليوم، مساندون للحق الفلسطيني محايدون تجاهه أو حتى خونة للقضية، كلنا اليوم مصهورون بمشاهدها. من منا سينسى كيس البلاستيك المليء بأشلاء الأبناء معلقاً في يد أبيهم، أو المطرقة في يد أبي سعيد وسلمى داقاً بها على كومة رهيبة من الأنقاض باحثاً عن أبنائه، أو مشاهد المقابر الجماعية والأكفان الصغيرة الدامية والشهداء الصغار في أحضان أمهاتهم، يتلقون الحضن الأخير والقبلة الأخيرة. من منا قادر على تخيل لحظة سحب هذا الجثمان الصغير الطاهر من حضن هذه الأم ليوارى تحت التراب. من منا سيتمكن من نسيان وجوه الأطفال الذين تحولوا أحياء إلى هياكل عظمية جوعاً وعطشاً. من منا سيقدر على محو صور الأسرى الخارجين حطاماً زائغي الأنظار من السجون الصهيونية. من يقدر على نسيان أو تجاهل كل هذا؟
صحونا من نومة العصر. لربما هي نومة عصر كامل، غفوة طويلة ثقيلة لزجة إبان القرن العشرين كله، تنتهي على هذه البشاعة والوحشية التي طالما تكررت إبان قرن الغفوة هذا. إلا أننا لم نكن نرى ونسمع كما نرى ونسمع الآن. أفقنا الآن وقد فات الأوان، بعد أن قتل الكيان الصهيوني ما يقترب من العشرة بالمئة من سكان غزة. فهل ستدوم الإفاقة؟ هل ستعود للحياة الضمائر الراقدة في غيبوبة؟ هل ستصحو الإنسانية؟