أوجز الفيلسوف والاقتصادي كارل ماركس تطلعاته، حول الرؤية المستقبلية لتحول دول أوروبا في توجهاتها النخبوية إلى النظام الاشتراكي، على أنه استباق لروح العصر، وأن ما من شك من التحول حسب رأيه، وكانت أولى تجلياته في التنبؤ الاشتراكي المنبثق من لندن، حيث كتب الموجز الأخطر في التاريخ البشري من باريس، وكان قد وضع جل تطلعاته في أن تتحول بريطانيا، أيقونة أوروبا إلى الاشتراكية، كونها الأدق والأقرب إلى نمط النقابات العمالية ونشاطها، وبسبب الكثير من حلقات الفقر التي تركها المجتمع المخملي البريطاني الملكي، غير أن الأمور لم تمض كما تنبأ ماركس، إذ إن الحكومة البريطانية أغدقت العطاءات المالية على النخب العمالية ونقاباتها من الأموال التي جناها الجيش البريطاني من المستعمرات والدول التي احتلها، ومثل الأمر تصرفا ليبراليا هو أقرب إلى البرجوازية الإنسانية، وهو ما أغفله ماركس، بسبب نزوعه الإنساني، وهو الأمر الذي جاء مغايرا للنهج الاشتراكي المتمثل بأفراد النخب الطبقية لتفتيت الهيمنة الحكومية العليا المتمثلة بالتاج والكنيسة وهيمنة اليمين.
لكن الفيلسوف الألماني المشاكس نيتشه كانت معالجاته أدق وأقرب إلى روح الواقع، ففي تفسير نيتشه لحالات الألم الإنساني محطات أهمها ردم الواقع واقتلاع الجذور، ونسف التاريخ والوصول حتى إلى الممانعة اللغوية، مذكرا نيتشه بتحول التاريخ إلى فاعل في الحاضر، حين يتم استحضاره والتذكير به والعمل عليه، ولم يك نيتشه بدراية حول طبيعة التنوع الإنساني في أوروبا، فالتعامل مع المنطق والرياضيات كأدوات برهانية يختلف عن معالجة الفقر والمرض والشذوذ وتمرد الأنا واستغراق الأدب ونهايات التاريخ، إذ اعتبر نيتشه بلده ألمانيا وسويسرا والنمسا قلب العالم، مع القطع التاريخيّ لإحالة كل ما لا يفسر إلى الميتافيزيقيا، هربا من أسئلة التحول الإنساني، إذ لا يمكن هدم الأصنام والوثنية والاستعلاء على كتب الرسل، ومن ثم الدعوة لعبادة رسل الفلسفة في نظريات لم تثبت حقيقتها التاريخية ولا المثالية، كما نوه تلميذ الماركسية ريجيس دوبريــه، بأن إعداد وجبة لفقراء الأحياء المنسية لا يستدعي تحليل نظريات الوجود برمتها.
ولم يمض العقد الماركسي حتى عمت ثورة الأقلام تجاه قلب الواقع الأوروبي، الذي ترك جراحا في الضمير العالمي، كما في الحربين العالميتين، وتقسيم البلدان المحتلة وولادة الدول البوليسية والدول المارقة وديكتاتوريات الشرق الأوسط، مع تعدد المحاور التي تدل على القمع والتصفيات العرقية في أفريقيا وآسيا. والسؤال الذي يطرحه عشاق النزعة الإنسانية هو في إمكانية المزج بين فلسفة ماركس المنادي بإحلال المنظومة البروليتارية إلى جانب الفكر الوحشي المتمثل بعنف نيتشه الرافض لكل الأطر الكلاسيكية، وهو ما تبنته فرنسا عبر طروحات جان بول سارتر، وأنموذج الصين في المزج بين الكونفوشيوسية المتعالية الحكمة وبين تاريخيّة كارل ماركس المنبثقة عن الالتزام الأخلاقي والقلب اللاإرادي لسيرورة التاريخ ذاته، وهو ما يبتعد عن المسميات التي رفضها العقل الأوروبي، لفشلها في روسيا وأوروبا الشرقية وكوبا وفيتنام وكوريا الشمالية واليمن ويوغسلافيا، فالمجتمعات المنغلقة قوميا، لا يمكن لها أن تحدد خطابها العالمي التطوري، إذ لابد من صيرورة شاملة لتلاقح الأفكار والمبادئ مع واقعها ونمطها المؤسس ومع الأهمية العظمى لحرية الاختيار الشامل للشعوب في قياداتها والأفراد في ميولهم واختياراتهم، وهو ما مارسته بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وأستراليا وماليزيا وإندونيسيا وكوريا الجنوبية، ما بعد فترة الحرب الباردة، ومع التنويه إلى التخوف من الأنموذج الروسي الذي فقد بوصلة التحديث والنهوض وقلب الواقع، حيث تمت إعادة البنود القيصرية بثيابها الاشتراكية دونما تغير أو تثوير لطبيعة الواقع المعاش.
شاعر ومترجم عراقي