نيتشه… هذا هو الإنسان

إن قراءة نيتشه لا تبدو أمراً نمطياً أو آمناً، من منطلق أن كتاباته تنطوي على رغبة تقويضية لكل ما هو قائم، حيث يسعى نيتشه لأن يعيد تشكيل العالم تبعا لوجهة نظره التي تقترب من توجهات لا يمكن وصفها بأنها واقعية، إنما تتجه لاكتناه الأشياء بما هي عليه، أو تبعاً لجوهرها النقي والخالص، فالفيلسوف الألماني مناهض للمنجز في تمكين النظم المتعالية للمجتمع، والثقافة، والدين؛ ولهذا يبدو كل ما هو قار أو منجز من وجهة نظره منظومة متعالية، وبناء عليه، فإنه يعدّ هدفا للكتابة الهدامة التي تسعى لأن تعيد تشكيل المفاهيم التي أدمنها البشر.
في كتابة «هذا هو الإنسان» – من منشورات دار الجمل، ترجمة علي مصباح – نقرأ الصيغة الفلسفية التي تبدو لنا نافرة عن كل ما هو نمطي، فالكتاب في تكوينه لا يقترب من صيغ السيرة الذاتية بالمعنى التقليدي، إنما هو أقرب إلى صيغة التنظير، بالتجاور مع صيغة البوح، وأخرى بينية، كما جدلية، فنيتشه يبدو شديد التعقيد، أو الإرباك. كيف يمكن أن نعيد صوغ الموجهات التي يرغب في أن ينقلها لنا نيتشه، ولا سيما عندما يضع ذاته في مركز تدفق الخطاب؟ ولكن ذاته تبدو لي متوارية في ظلال وجود «زرادشت» الذي بدا لنا شديد التمكن من وعي نيتشه، حيث يرى في كتابه هذا خلاصة فلسفته، ولكن قبل مقاربة «زرادشت» يتحدث نيتشه عن طفولته ونشأته، وعاداته ومرضه وكتاباته وقراءاته.
يقول نيتشه بخصوص كتاباته: «أنا شيء وكتاباتي شيء آخر»، وهنا يمكن أن تُختزل حياته، من خلال اكتشاف مكامن قوته الفكرية، فهو قد جعل من كتاب «زرادشت» نشيده الأبدي، وهنا نلمح إدراكاً لإشكالية تلقي هذا الكتاب في زمن مؤلفه، غير أن نيتشه يرى أن قيمة كتابه تكمن في المستقبل، ولعل الرجل لم يجانب الصواب، حيث بدا لنا هذا الكتاب في تكوينه ومقاصده أكثر من مجرد صيغ متعددة من المعاني والدلالات والرؤى الفلسفية، التي تخضع للكثير من التأويل وإعادة التوجيه، في حين يبدأ يوجه بعض الملحوظات بخصوص استقبال فكره لدى بعض الناقد والفلاسفة، لكنه يصرّ على أنه لا يبدي أيّ اهتمام بالقراءة النقدية لكتابه، ومن ثم يمضي إلى الإتيان على بعض كتبه، ومنها «في ما وراء الخير والشر»، وغيرها من الكتب، التي يسعى لأن يوضح للقارئ النموذج الأسلوبي المتبع فيها، وهو نموذج يخضع لتعدد الحالات النفسية الخاصة به، ومع ذلك فهو ينتقد الجانب المثالي في الأسلوب، ويرى أنه ضرب من الوهم، كما هي الأخلاق التي يتحدث عنها في فصل آخر، بل يدعو إلى عودة الإنسانية إلى جوهرها؛ أي التخفف من معنى الصدفة، والقوى، والإيمان بالفعل، أو القوة التي تعيد صوغ الأشياء وبناء العالم من منظور جديد.
ثمة في الكتاب نقد للعرق الألماني وضعفه، وثمة إعجاب بفرنسا، ولعل هذا يعني تفسيرات متعددة، أو إنه يعني نبذ ذاك التمكن لمعنى الضعف من قدر الأمم، وعدم القدرة على تكوين ذلك الانفصال عن الوعي المثالي الذي ساد في ألمانيا نتيجة الهيغلية، وفي سياق هذا الوعي يتحدث نيتشه عن علاقته الجدلية مع موسيقى فاغنر بوصفها سياقا لعوالمه الداخلية، ومن ثم يتناول أثر شوبنهاور، وانقلابه عليه.. هذا المزاج الحاد القائم على محاولة تجاوز ما كان، إلى ما هو مطلق ومختلف، يبدو نهجاً نيتشوياً واضحاً.

ينحاز نيتشه إلى الجانب الدنيوي للعالم، أو إلى تلك التمثيلات التي تناقض معنى الفضيلة الفارغة والهشة والزائفة، إنه لا يرغب في أن يقاد إلى ثقافة الأصنام، وأن يكون مسلوب الإرادة والفكر.

إن تفسير فلسفة نيتشه ينطوي على قدر كبير من الاختلاف بين متلقيه وأتباعه، إذ ما انفك يُعاد تفسيره تبعاً لسياقات محددة، وبوجه خاص، نظرته الدونية تجاه بعض الأقوام، أو تمجيده عرقا على حساب عرق ما، أو في ما يتعلق بالأخلاق، وغير ذلك من الأفكار التي شكلت مراحل مفصلية في مجمل أفكاره. إن فلسفة نيتشه جديرة بأن تبقى في مجال النقد الفاعل أو النقدي؛ بهدف الكشف عن كافة مستوياتها العميقة من ناحية الفهم، والتأويل، أو ربما تحديد ما إذا كانت ثمة تناقضات كما يتضح من استقبال فلسفته. لقد كان إدراك نيتشه لحدود عالمه، ونقمته يتمثل بأن فهمه، ومقاربة أعماله كما يذكر في كتابه لم تلق العناية الجادة؛ ولهذا قام بإدارة كتبه، ونشرها من أجل أن تلقى المزيد من الاهتمام. في حين نجد وصفاً لمسارات نيتشه، ومنها محطات عبقرياته، إذ يُذكر بأنه كان من أصغر الأساتذة الذين حصلوا على منصب أكاديمي في الجامعة، بيد أن نوبات جنونه ومرضه ونزعته في رفض المنظومة القيمية القائمة على الضعف والاستلاب، حالت دون أن يتمكن من الاستمرار في هذا المنصب.
ينحاز نيتشه إلى الجانب الدنيوي للعالم، أو إلى تلك التمثيلات التي تناقض معنى الفضيلة الفارغة والهشة والزائفة، إنه لا يرغب في أن يقاد إلى ثقافة الأصنام، وأن يكون مسلوب الإرادة والفكر. إنها الحرية التي تنتج عن فعل الشك انطلاقاً من عالم المثل كما يقول، حيث تتحدد مهمته بتحطيم الأصنام، فعالم المثل غير حقيقي، أو واقعي. ما يمكن أن نستخلصه من هذا أن نيتشه يرى أنه يجب على أي فعل معرفي، أن ينتمي إلى قدر من الشجاعة، وأن نحجب مقولة الأخلاق التي تحدد العقل، حيث يقول: «أي قدر من الحقيقة يستطيع عقل أن يحتمل؟ وإلى حدّ من الحقيقة يجرؤ عقل على المضي؟ تلك هي المقاييس الحقيقية التي غدوت أعتمدها أكثر فأكثر… وكل فتح جديد، وكل خطوة إلى الأمام في مجال المعرفة، إنما هي متأتية من الشجاعة، ومن الشدة مع النفس، ومن النقاوة تجاه الذات».
في الكتاب ثمة احتفاء بالتعليق الفلسفي، وتقاطعه من وجهة نظر المؤلف، ورؤيته للحياة والطبيعة، علاوة عن بحثه عن أجواء تتيح له أن يتحرر من مرضه، وغير ذلك. ولعل من أشد الأفكار طرافة ما يتعلق بالقراءة، حيث يرى نيتشه أن فائض القراءة تحدث تحولاً في مزاجه، فالقراءة بوصفها مصدراً للراحة، غير أنه يقول أيضاً أن القراءة يمكن أن تصيب الذكاء الغريزي بالعطب، ويقصد هنا أن القراءة في لحظات التفكر والتأمل يمكن أن ينتج عنها عارض، أو مصادفات، أو عوامل خارجية ربما تكون عنيفة تجاه ما يفكر فيه؛ إذ يجب أن ينأى بنفسه عن هذا المزاج إلى أن ينتهي من أفكاره، غير أن القراءة يجب أن تتوجه إلى كتب مُنتقاة بعناية، وأن تكون قليلة جدا، فالكثير من الكتب أو القراءة يمكن أن يسبب له الإرهاق، والتشتيت، بل أن معاداة الكتب تعدّ من أبرز غرائزه، ولهذا يحلو له أن ينتقي بعض الكتب لمؤلفين منهم ستندال، ودوستويفسكي، وهاينريش هاينه، في حين تصيبه قراءة شكسبير بالغثيان، غير أن عشقة يبقى للموسيقى، ولعل من أشد العبارات طرافة حين يصف نيتشه ولعه بالموسيقى، ولاسيما مقطوعة فاغنر التي تحمل عنوان «تريستان» بقوله: «إن العالم يبدو فقيراً جدا بالنسبة لأولئك الذين لم يبلغوا حدا كافياً من المرض كي يتذوقوا متعة الجحيم».
إن قيمة هذا الكتاب تكمن في كونه يبحث في تعريف الإنسان من وجهة نظر شديدة التفرد، والتطرف، ولكنها ربما شديدة القدرة على توليد خضّة عميقة في فهم الإنسان لذاته، فعلى الرغم من أن نيتشه في تكوينه يبدو مختلفاً عن أي فيلسوف، كونه نافر الفكر، فمجمل أفكاره تحمل قدرا كبير من العمق – إذا ما أحسن فهمه- فهي في مجملها تبدو تبصرات في تحقيق الاقتراب من إدراك كنه بعض الحقائق. فنيتشه يرى أن على الإنسان في سائر حياته أن يبتعد عن ردة الفعل من أجل حماية الذات من جانب، كما يعلق هذا السلوك من حريته من جانب آخر، ولهذا يأتي لنا بنموذج رجل العلم الذي لن يتمكن من التفكير إلا إذا قام بالقراءة، وبذلك فإن نقده الأكاديمي يتحدد بمقولة (لا ونعم) فيما يقرؤه، وبذلك تنعدم لديه إرادة التفكير. ولعل هذا التبحر في تمكين الرؤية المناقضة للوجود، بما في ذلك القيم التي يرى فيها نيتشه عبئا يجب أن يتخلص منه، في حين أنه لا يريد ذلك الإحساس بالبطولة، فهو يعدّ ذاته نقيضاً لكل ما يحمل طابعا بطولياً.

٭ كاتب أردني فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Naila:

    من اجمل الكتب التي قرأت .
    عميق وجلي وواضح كما يليق بنتشه .

  2. يقول S.S.Abdullah:

    إشكالية رفض الثقافة الألمانية للنظام الربوي بشكل عام، والتي تسببت بالحرب العالمية الأولى والثانية وتأسيس دولة الكيان الصهيوني بعد 1945، هو ما أثاره عنوان (نيتشه… هذا هو الإنسان) بعد بداية مسيرة العودة الأسبوعية لأهل فلسطين، وانتفاضة السترات الصفراء الأسبوعية في فرنسا في عامي 2018/2019

    فإشكالية دولة الحداثة الربوية في أجواء سوق العولمة والإقتصاد الإلكتروني، هو موضوع الضرائب والرسوم والجمارك؟!

    هل تكون مقابل خدمات، أم هي المفهوم العملي للقانون؟!

    واستغلال من يجلس على كرسي السلطة ذلك، لتمويل رواتبه ورواتب الأجهزة الأمنية والعسكرية والقضائية والإعلامية التابعة له، بحجة نشر تعليم لغة دولة الحداثة لثقافة الأنا أولاً ومن بعدي الطوفان،

    وفق لعبة من يضحك على من، في لعبة المقامرة (من يقبل أن يضع أمواله على أحد الأقداح الثلاثة) في مدينة القمار (لاس فيغاس) في ولاية نيفادا الأمريكية.??

  3. يقول S.S.Abdullah:

    فالعولمة وأدواتها قامت بفضح وتعرية كل أدوات دولة الحداثة، في الضحك على الإنسان والأسرة والشركة المنتجة، التي كانت تستخدمها لتمرير موضوع الضرائب والرسوم والجمارك بلا خدمات عملية واضحة مقابل ذلك،

    ومن هنا سر الإنهيار الكامل لمنظومة الأخلاق والإقتصاد في دولة الحداثة بشكل عام من وجهة نظري على الأقل.??
    ??????

إشترك في قائمتنا البريدية