نيوم من العدم إلى عاصمة التطبيع السعودي-الإسرائيلي

إبراهيم نوار
حجم الخط
0

إنها تقطع الصلة بين ماضي الجزيرة العربية كمهد للرسالة المحمدية وقيادة للعالم، وبين حاضرها كأكبر قوة نفطية عائلية في العالم، تحاول أن تمارس دورا قياديا إقليميا إنطلاقا من منصة ثروتها النفطية، وبين مستقبلها كدولة تدور في الفلك الإسرائيلي مع غيرها من الدول العربية التي ارتضت أن تكون مجرد ذيل لمشروع عصر السلام الإسرائيلي في الشرق الأوسط، الذي يقوده بنيامين نتنياهو واليمين الديني الإسرائيلي، على أنقاض حقوق واحد من شعوب المنطقة، وعلى حطام أحلامها في بناء حياة كريمة، آمنة ومليئة بالرخاء الذي تثمر حدائقه من خيراتها، مما في باطن الأرض وما فوقها، ومن موقعها وتاريخ حضارة هذه الشعوب الضارب في عمق جذور تاريخ العالم. نيوم مدينة جديدة تقوم من العدم إلى العدم، منقطعة الصلة بمستقبل شعوب المنطقة ككل، ومجرد ملحقية من ملحقيات القدس على خريطة عصر السلام الإسرائيلي.

ولأنها ستصبح كذلك، فإنها ستكون ركنا من أركان واجهة القِلّة وحاضنة مصالحهم سواء في مملكة النفط أو في غيرها من الملحقيات الحالية أو التالية التي تصطف في طابور التطبيع. إنها الآن ما يمكن تسميته بـ “المدن التكنولوجية” الجديدة، التي ستعتصر فائض غيرها حيث تعيش الأغلبية، لتكون واجهة سيادة الأقلية بقيادة اليمين الديني الإسرائيلي. لكن تلك المدن التكنولوجية الجديدة ستتناثر في أماكن مختلفة من المحيط إلى الخليج، لتصبح في مجموعها الواجهة الكبرى لرغبة شريرة يُراد تحقيقها، ويمكن تحقيقها، طالما وُجِدَ الخدم الذين وظيفتهم قهر الشعوب وتغييب إرادتها وحجبها عن مجال الفعل. هؤلاء الخدم كانوا الأداة التي روجت للعداوات بين الشعوب، سواء في داخل بلدانهم، أو على صعيد المنطقة ككل، وأشعلوا الحروب في كل مكان منذ بدايات القرن الماضي، وتصدروا موجة العداء لليهود لكي يبرروا استبدادهم بشعوبهم، وها هم الآن تسقط عن وجوههم الأقنعة القذرة، وتبدو ملامحهم القبيحة على حقيقتها، بدون رتوش أو مساحيق تجميل.

وليست نيوم التي استضافت أول لقاء معلن بين حاكم القدس وحاكم الرياض بمدينة صغيرة، أو مجرد منتجع على البحر. إنها منطقة بحجم دولة مثل بلجيكا، أو ولاية أمريكية مثل ماساتشوستس، تبلغ مساحتها ما يقرب من 28 ألف كم مربع. ويخطط الحاكم الفعلي للرياض، نائب الملك وولي عهده محمد بن سلمان، أن تكون دُرّة تاجه عندما يُتوج ملكا رسميا لمملكة النفط السعودية. وتبلغ قيمة الاستثمارات الأولية فيها حوالي 500 مليار دولار أي ما يعادل ضعف قيمة الناتج المحلي الإجمالي السنوي لبلد مثل مصر أو فيتنام. وتقدم “شركة البحر الأحمر للتنمية” المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة السعودي، وهي رأس الرمح وفارس الميدان المتقدم في مشروعات نيوم، نموذجا لنمط الإدارة في المدن التكنولوجية الجديدة في العالم العربي. الشركة يتولى إدارتها الفعلية طاقم بقيادة جون باجانو، المدير التنفيذي السابق لمجموعة “كناري وورف” في لندن، وتعمل من خلالها شركات سعودية بنظام المقاولات الداخلية، ثم تعيد توزيع العقود بنظام العمل مع شركات أخرى من الباطن، بما يسمح لها بتحقيق هامش ربح ريعي يتم الحصول عليه بلا عمل. وكان أول رئيس لشركة نيوم كلاوس كلاينفيلد، ثم انتقل إلى كرسي الرئاسة التنفيذية السعودي نظمي النصر تحت رئاسة ولي العهد السعودي مباشرة الذي يترأس مجلس إدارة نيوم حاليا. ويتولى مديرون تنفيذيون أجانب قيادة القطاعات المختلفة مثل الأمن والعلاقات العامة والسياحة وغيرها.

وتتولى شركات عالمية دور التخطيط والتصميم والاستشارات، وعلى رأسها ثلاثة مكاتب استشارية عالمية، هي “ماكينزي” و”بوسطن” و”أوليفر ويمان” الذين تم الاتفاق معهم بناء على تفاهمات مع بن سلمان لتقديم المشورة للمشروع ككل باعتباره أهم مشاريع رؤية 2030 التي أعلنها، لتكون خريطة الطريق الجديدة للتنمية في السعودية.

مدينة أو ولاية نيوم، التي تقع إلى الغرب من تبوك حتى البحر الأحمر ومضايق تيران المصرية وحدود كل من الأردن وإسرائيل عند خليج العقبة وإيلات، يراد لها أن تصبح بوابة البر والبحر لدول شبه الجزيرة العربية وطريقها من وإلى العالم، إلى الشرق عن طريق البحر الأحمر فالمحيط الهندي، بعيدا عن النفوذ الإيراني في الخليج، وإلى الشرق عن طريق إسرائيل والبحر الأبيض، تأكيدا لنفوذ إسرائيل الجديد كبوابة للمنطقة إلى العالم، وبوابة للعالم إلى المنطقة التي شهدت من قبل ميلاد ووفاة خمسة عصور إمبراطورية كبرى امتدت لمدة تزيد على أحد عشر قرنا من الزمان، أي ما يعادل نصف تاريخ البشرية بالتقويم الميلادي.

الاستثمارات في نيوم

وتقوم رؤية إنشاء ولاية نيوم التي تم إطلاقها فعليا عام 2017 على الرغبة في تنويع اقتصاد السعودية وإدخال مجالات وأنشطة جديدة تسهم بنسبة متزايدة في الدخل القومي. ويطمح بن سلمان في أن تصل الايرادات الإجمالية من مشروعات نيوم بعد اكتمالها إلى 100 مليار دولار سنويا. وتغطي المشروعات المقترحة أو تلك التي تمت مباشرة أعمال تنفيذها مجالات السياحة الشاطئية والطيران والفنادق والترفيه والألعاب الرياضية والخدمات التكنولوجية المتقدمة جدا، التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي وأجهزة الروبوت وتكنولوجيا الاستشعار عن بعد. ومن أهم المشروعات الاستثمارية في نيوم مشروع إنشاء قمر يضيء سماءها كل ليلة بديلا عن القمر الرباني، ومشروع إنشاء جسر معلق فوق جزيرة تيران يربطها بمصر وأفريقيا.

ويتم تمويل مشروعات نيوم بحزم تمويلية يشارك فيها صندوق الاستثمارات العامة السعودي ووزارة البترول والطاقة والمصارف العالمية. وتواجه نيوم في الوقت الحاضر صعوبات متزايدة في الحصول على التمويل اللازم لضمان إتمام المشروعات في مواعيدها. وقد تفاقمت هذه الصعوبات في العام الماضي حينما هبطت أسعار النفط هبوطا حادا، فتعثرت الشركات المنفذة، كما أدى إلى تدخل وزارة النفط بإعلان التزامها توفير التمويل اللازم على الرغم من الصعوبات. كذلك زادت الشركات العاملة من اللجوء للاقتراض المصرفي من الداخل والخارج. على سبيل المثال فإن شركة البحر الأحمر للتنمية اقترضت في الشهر الحالي 3.7 مليار دولار إضافة إلى 1.8 مليار دولار حصلت عليها من قبل. وبسبب صعوبات التمويل فقد انخفضت نسبة تنفيذ الأعمال المطلوبة. ويبلغ المتوسط العام للتنفيذ في المرحلة الأولى التي تنتهي عام 2023 نسبة 30 في المئة فقط من الأعمال المستهدفة. وما لم تتحسن الأوضاع في سوق النفط خلال العام المقبل فإن صعوبات التمويل ستتفاقم أكثر وأكثر خصوصا وأن الدين العام السعودي زاد بنسبة الثلث تقريبا خلال العام الحالي، وهو ما يفرض قيودا على طلبات التمويل الجديدة ويرفع أسعار الفائدة على القروض الخارجية، خصوصا اذا استمرت مؤسسات التصنيف الائتماني في تخفيض درجة الجدارة المالية للسعودية.

تنافس أم تكامل إقليمي؟

على الرغم من انه لا توجد خطة واضحة بشأن مستقبل الدور الإقليمي لمشروعات نيوم كمنطقة استثمارية، وهل ستكون منطقة منافسة لمنتجع شرم الشيخ السياحي المصري، ومشروعات تطوير واجهة الأردن على خليج العقبة، وكذلك لمدينة إيلات الإسرائيلية خصوصا في مجالات السياحة والنقل الجوي والبحري والبري، أم أنها ستتكامل معها؟ لكن هذا الغموض بشأن مستقبل العلاقة بين نيوم والأقاليم المجاورة في مصر والأردن وإسرائيل لا يقلل من حقيقة أن إنشاء بنية تحتية قوية في نيوم يمكن أن يساعد على إقامة ترتيبات تعاون إقليمي بين الأطراف الأربعة، السعودية ومصر والأردن وإسرائيل، ويمكن أن تنضم إليهم أيضا دولة الإمارات.

وإذا أردنا أن نحسب التكلفة والعائد للأطراف الإقليمية المجاورة لنيوم، فإننا نستطيع القول إن إسرائيل ستكون أكبر الرابحين، في حين أن مصر يمكن أن تتعرض لخسارة صافية مؤلمة إذا قام مشروع نيوم على أساس التنافس مع منطقة المنتجعات السياحية المصرية في محافظة جنوب سيناء. وربما كانت المساعدات التي قدمتها السعودية لمصر في عام 2017 بغرض دعم التنمية في سيناء هي عبارة عن تعويضات مبكرة عن الخسائر التي ستلحق بمصر نتيجة المنافسة. وفي أحسن الظروف فإن منطقة منتجعات جنوب سيناء التي تضم شرم الشيخ وطابا ودهب وراس محمد وغيرها، ربما تصبح موطنا للسياحة الرديئة الرخيصة قليلة العائد، في حين تصبح نيوم هي قاعدة جذب السياحة التكنولوجية الغالية مرتفعة العائد التي تجتذب هواة التاكسي الطائر، وخدمات الروبوت، والسياحة الشاطئية الراقية.

أما بالنسبة لإسرائيل، فإن إنشاء نيوم يصب في مصلحة تنمية صحراء نقب فلسطين التي ستصبح خلال العقود المقبلة هي المحرك المناطقي للتنمية في إسرائيل. ويعتبر خبراء التنمية أن النقب تمثل المنطقة الواعدة لمستقبل إسرائيل الاقتصادي، وتحقيق حلمها في أن تكون وطن يهود العالم عن طريق استيعاب أعداد كبيرة من المهاجرين في مشروعات التنمية في منطقة ما تزال من أقل المناطق نموا في إسرائيل. وتستطيع إسرائيل ان تنشئ في النقب مزارع ضخمة لتوليد الطاقة الشمسية، وتقديم بديل للمشروع السعودي المتعثر في نيوم لإنشاء مزارع للطاقة الشمسية باستثمارات تبلغ 200 مليار دولار. كذلك تستطيع إسرائيل تحويل النقب إلى قاعدة صناعية وزراعية جديدة تعزز قوة الاقتصاد الإسرائيلي وتزيد امكانات النفاذ الاقتصادي إلى الأسواق المجاورة. ومن المتوقع في هذا الصدد أن تصبح نيوم سوقا لمنتجات الشركات التكنولوجية الإسرائيلية، كما هي الضفة الغربية في قطاع السلع الزراعية والغذائية.

ويمكن تلخيص أهمية نيوم في مشروع عصر السلام الإسرائيلي على النحو التالي:

أولا: إقامة منطقة تنمية إقليمية جديدة بقيادة إسرائيل تشارك فيها تحت قيادتها السعودية ومصر والأردن وتكون بوابة المنطقة للعالم وبوابة العالم للمنطقة.

ثانيا: أن تكون إسرائيل هي الضامن الأمين لمشروعات ومصالح القوى الرئيسية العالمية في المنطقة، ضد عواصف التغيرات السياسية الكثيرة في الشرق الأوسط، وضد ضباب الفساد الإداري الذي تزكم رائحته الأنوف في عواصم الدول العربية، على أن تكون المشاركة في مشروعات نيوم بالتعاون مع أطراف مختلفة مثالا للدور الذي يمكن أن تلعبه إسرائيل في هذا المجال.

ثالثا: فتح الباب لإعادة توظيف الفوائض المالية لدول النفط العربية الخليجية، بحيث تضع المؤسسات المالية والسياسية الإسرائيلية أيديها على هذه الفوائض، وتكون عونا لقوتها التمويلية في المنطقة والعالم. ونظرا لطبيعة الاقتصاد الإسرائيلي الذي يتميز بخصائص اقتصاديات الدول الصناعية، فإن إسرائيل تستطيع أن تستخدم مشروع نيوم السعودي كواجهة لدورها التكنولوجي والمالي في المنطقة.

رابعا: تأكيد سيادة إسرائيل على المنطقة في كل المجالات على قاعدة التفوق العلمي والتكنولوجي، وأن تكون على رأس المشروعات الكبرى في المنطقة، ليس من حيث الحجم الغثاء، ولكن من حيث النوعية والنفوذ، خصوصا في مجالات سجلت فشلا ذريعا لأنظمة الحكم الوطنية، مثل الفشل الصارخ في تحقيق الأمن المائي والغذائية وتوفير فرص العمل الملائمة للمواطنين.

ومثلما كانت شرم الشيخ المكان المفضل الذي يلتقي فيه الرئيس المصري الراحل محمد مبارك مع قادة إسرائيل، فإن نيوم أثبتت من الآن أنها ستصبح المكان المفضل للقاءات بين محمد بن سلمان والقيادات الإسرائيلية، سواء استمر نتنياهو في الحكم أو حكمت عليه محكمة الجنايات بالسجن في القضايا المتهم فيها.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية