لندن ـ “القدس العربي”:
علق روجر كوهين في صحيفة “نيويورك تايمز” على وهم الغرب بشأن ميخائيل غورباتشوف وانتصار الليبرالية.
وقال إن آخر زعيم للإتحاد السوفيتي حلم بـ”بيت أوروبي مشترك” لكنه الفكرة المحيرة لا تزال بعيدة المنال بعد ثلاثة عقود. وقال إن غورباتشوف الذي توفي يوم الثلاثاء آمن بإمكانية الحفاظ على الإتحاد السوفييتي بدون اللجوء إلى العنف، وكان هذا سوء فهم منه لطبيعة الإمبراطورية القهرية التي حكمها. وانهارت الإمبريالية السوفييتية عام 1991 وتعامل الغرب من الحدث كانتصار للحرية والليبرالية الديمقراطية.
وقال كارل بيلدت، وزير الخارجية السويدي السابق “عرف كل قائد سوفييتي قبله أن عليه إرسال الدبابات من فترة لأخرى”، مضيفا أن “عظمة غورباتشوف، تكمن هنا “. فلأن بولندا نظمت أول انتخابات لها منذ عام 1945 في صيف 1989، وتشيكوسلوفاكيا حصلت على ثورتها “المخملية” وليس الثورة العنيفة في ذلك العام، ولأن جدار برلين انهار بدون إسالة قطرة دم في 9 تشرين الثاني/نوفمبر 1989 وخرج نصف مليون جندي روسي من أوروبا الشرقية بدون إطلاق رصاصة واحدة، فإن هذا لأن غورباتشوف أدار ظهره لاستخدام القوة. ويذكر الكاتب أن غورباتشوف قال للأمم المتحدة في كانون الأول/ديسمبر 1988 “من الواضح، مثلا، أن القوة والتهديد لا يمكن أن تكون ويجب ألا تكون وسيلة في السياسة الخارجية”. وبحسب الكاتب فهي رسالة لم تصل على طبق للرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين. وقد أصبحت أوروبا واحدة والفضل يعود إلى غورباتشوف، لكن ليس من الواضح ما قدمته بدلا عن ذلك. وأصبح هذا السؤال حاضرا بعد أن مزقت الحرب القارة مرة أخرى، وإن كانت الولايات المتحدة وحلفائها الذي كانوا اندهشوا من الهدية التي قدمها غورباتشوف وسياسات اللبرلة والإنفتاح (غلاسنوست) و”البريسترويكيا”، لكن هذه المعطيات الجديدة أثرت على الغرب بعدم التفكير بتداعياتها على الأمن والمجتمعات الغربية. واقترح الرئيس بيل كلينتون في 1997 أن حروب القوى العظمى على المناطق قد انتهت. وأن حقبة جديدة قد بدأت وأن “المصلحة الذاتية المستنيرة وكذا المصالح المشتركة ستجبر الدول على تعريف عظمتها بطرق بناءة جديدة”.
اقترح كلينتون في 1997 أن حروب القوى العظمى على المناطق قد انتهت. وبعد ربع قرن، جاء بوتين ليعرف العظمة الروسية من خلال القوة ومحاولة استعادة الأمبراطورية المنهارة
وبعد ربع قرن، جاء بوتين ليعرف العظمة الروسية من خلال القوة ومحاولة استعادة الأمبراطورية المنهارة. ولم تكن وجهة نظر كلينتون المتفائلة معزولة عن الغرب في العقد الذي أعقب تصرفات غورباتشوف التي أدت إلى نهاية الحرب الباردة وانهيار الإتحاد السوفييتي. وكان هناك شعور بأن التاريخ سيتدفق بشكل طبيعي ليخدم مصلحة الغرب لأن البديل الأيديولوجي في موسكو قد انهار. وبدا أنه لا يوجد هناك بديل لتقدم الليبرالية. وتخيل البعض وجود “طريق ثالث” جامع بين الرأسمالية والإشتراكية، لكن لم يحدث هذا. وكان هذا تعبير عن عقلية مثالية وبالتالي خطيرة لأنها كانت تعطي الغرب علامة نجاح على فشله. ولم تكن هذه العقلية أكثر مثالية من تقكير غورباتشوف واعتقاده بمجتمع شيوعي تم إصلاحه ومنفتح أكثر على المبادرات الشخصية وديمقراطي أكثر وحر في النهاية. وبطرق عدة وصف ميشيل دوكلو، المستشار الخاص لمعهد مونتين في باريس غورباتشوف بأنه “دوبيك السوفييت” في إشارة إلى ألكسندر دوبيك، الزعيم التشيكوسلوفاكي الذي أدت محاولته لتقديم اشتراكية بوجه إنساني إلى بلاده لدخول الدبابات السوفييتية إلى براغ عام 1968. وفي نفس الخطاب الذي ألقاه أمام الأمم المتحدة، تحدث غورباتشوف بشيء لم يكن أحد يجرؤ للحديث عنه “نحن، بالطبع، لا نزعم أن لدينا الحقيقة المعصومة عن الخطأ”. ولم يتخل غورباتشوف عن استخدام العنف، فقد تخلى عن عصمة العقيدة الشيوعية، والإعتقاد بأن الإمبراطورية السوفييتية تحتكر الحقيقة وخلق “جنة” العمال بالبندقية والغولاغ لو اقتضى الأمر. ويقول جاك روبنك، العالم السياسي الفرنسي الذي يركز في أبحاثه على وسط أوروبا “كان هذا هو تبرؤ غورباتشوف المزدوج وهو ما يحاول بوتين عمل عكسه”، مضيفا أن “غورباتشوف فخخ شيئا لم يكن قادرا السيطرة عليه. فقد صنع التاريخ لكنه لم يكن يعرف أي تاريخ يصنعه”. وكان ما بحلم به غورباتشوف واضحا في خطاب ألقاه عام 1989 أمام الجمعية البرلمانية للمجلس الأوروبي وتحدث فيه عن “بيت أوروبي مشترك” و “إعادة بناء النظام الدولي القائم في أوروبا بشكل يتم وضع القيم الأوروبية المشتركة في المقدمة وفتح المجال أمام استبدال التوازن التقليدي للقوى بتوازن المصالح”. وكان من المهم، كما قال “أن تكون فكرة توحيد أوروبا جمعية ومن البداية”. وكان هذا هو الوهم الكبير الذي يظل يحوم فوق أوروبا خلال العقود الثلاثة الماضية، فإذا انتهت الحرب الباردة وانهار حلف وارسو بقيادة الإتحاد السوفييتي فهل هناك إمكانية لمعمار جديد يمكن أن لا تكون فيه روسيا منافسا، علاوة على كونها عدوا؟ وحتى عندما دعي بوتين لزيارة باريس عام 2019 لمناقشة إعادة تشكيل فكرة أوروبا بناتو يعاني من “موت دماغي” كما وصفه الرئيس إيمانويل ماكرون، فقد أكد الأخير على أن “روسيا هي أوروبية، وبعمق. ونؤمن أن أوروبا تمتد من لشبونة إلى فلاديفستوك”.
وغيّر ماكرون فكرته هذه بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، فقد شجب الإمبريالية الروسية والعنف. وما بين لشبونة وفلاديفستوك تراب معفر بالدم، مرة أخرى. ورغم الحيرة من فكرة البيت الاوروبي المشترك التي دعا إليها غورباتشوف إلا أن فكرة رفض بلاده في المرحلة التي أعقبت حكمه التحول إلى دولة طبيعية لا يجعلها تهديدا لجيرانها. وقال دوكلوس “أرادت أن يكون لها قيصرا إمبرياليا”. وثتبت صحة رؤية بوتين الذي قال مرة أن “حدود روسيا لا تنتهي” وأن “روسكي مير” (العالم الروسي) الممتد على عدد من الدول بمن فيها أوكرانيا هي فكرة متجذرة عميقا في النفسية الوطنية. ويرى روبنيك إن “ما لم يقبله الروس هو أن غورباتشوف قدم الإمبراطورية بدون شيء”. لكن محاولات إعادتها كان مكلفا. ففي بولندا وهنغاريا، بحثتا عن العضوية في الناتو للحماية.
في الوقت الذي تحرر فيه 100 مليون نسمة في أوروبا بسبب إصلاحات غورباتشوف، فإن البيت الأوروبي المشترك لا يزال حلما بعيد المنال، وبعد وفاته، فالتاريخ لا يسير بخطوط مستقيمة
ومن خلال غزوها لأوكرانيا عززت موسكو حس الأمة الواحدة وزادت من أهمية الناتو، وهي المؤسسة التي كانت تعتقد أنها يجب أن تختفي مع الإتحاد السوفييتي. وفي الوقت الذي تحرر فيه 100 مليون نسمة في أوروبا بسبب إصلاحات غورباتشوف، فإن البيت الأوروبي المشترك والقارة الموحدة لا يزال حلما بعيد المنال، وبعد وفاته، فالتاريخ لا يسير بخطوط مستقيمة.
وبالنسبة للصين التي سحقت المتظاهرين في تيانامين عام 1989 ودول أوروبا الشرقية فالدرس واحد، فقد كان غورباتشوف ضعيفا، والطريقة الوحيدة للتحديث هي الإصلاح الديكتاتوري المدعوم بالقوة. لكن دين الغرب على غورباتشوف كان هو تدمير إمبراطورية ديكتاتوري. وكما تقول سيلفيا بيرمان، السفيرة السابقة لموسكو ” كان رجل سلام، وظل يشعر بالمرارة حتى آخر حياته والذي قاد إلى نهاية الحرب الباردة وخفف مخاطر المواجهة النووية”. عندما واجه جي أف كيندي مواجهة محتومة لتحرير برلين عام 1961 قال “لا يمكننا التفاوض مع ناس يقولون ما لي هو لي وما لكم قابل للتفاوض”. وكان هذا تفكير نيكيتا خروشوف، أما غورباتشوف فقد فضل التفاوض على الدبابات وتغيير العالم وخسارة بلده.