نيويورك تايمز: بتكريمه نابليون.. دخل ماكرون غمار حرب ثقافية وأرضى يمينا يحلم بمجد بائد

إبراهيم درويش
حجم الخط
4

لندن– “القدس العربي”: نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” مقالا للصحافي روجر كوهين قال فيه إن جاك شيراك لم يطق سماع اسمه، ونيكولاي ساركوزي بقي على مسافة منه، ونبذه فرانسوا هولاند. ولكن في الذكرى المئوية الثانية هذا الأسبوع لوفاة نابليون بونابرت، اختار إيمانويل ماكرون أن يفعل ما تجنبه آخر رؤساء فرنسا: تكريم الرجل الذي دمر في عام 1799 الجمهورية الفرنسية الناشئة في انقلاب.

وباختياره وضع إكليل من الزهور يوم الأربعاء على قبر نابليون تحت قبة Les Invalides الذهبية، خطا ماكرون إلى قلب الحروب الثقافية في فرنسا. فقد أصبح نابليون، الذي كان دائما شخصية مختلفا عليها، بمثابة اختبار رورشاخ (النفسي) للفرنسيين في لحظة مواجهة ثقافية متوترة.

 وتساءل الكاتب إن كان نابليون مصلحا حديثا شكل قانونه ونظام المدرسة الثانوية والبنك المركزي والإطار الإداري المركزي الأساس لفرنسا ما بعد الثورة؟ أم أنه رجعي عنصري وإمبريالي وكاره للمرأة؟

ويقول كوهين إن ماكرون من خلال احترامه لنابليون، سيرضي يمينا فرنسيا مضطربا يحلم بمجد ضائع ولحظة كانت فيها فرنسا، تحت إمبراطورها المضطرب، تقف في مركز العالم. إن الهوس الفرنسي بالملحمة الرومانسية لصعود نابليون وسقوطه لا يموت، كما أكد ذلك عدد كبير من أغلفة المجلات والبرامج الحوارية في الأسابيع الأخيرة.

يعتقد الكاتب أن دور نابليون الحاسم كمؤسس للدولة الفرنسية الحديثة يميل للتلاشي، في ظل روح العصر الحالية

ويعتقد الكاتب أن دور نابليون الحاسم كمؤسس للدولة الفرنسية الحديثة يميل للتلاشي، في ظل روح العصر الحالية، هذا إلى جانب سجله كمستعمر وداع للحرب والاستعباد. ومن هنا قام ماكرون بمخاطرة، صور من خلالها المسؤولون المقربون منه خطابه بالمناسبة على أنه محاولة لرؤية نابليون وجها لوجه وفي الضوء وفي الظل. ومع ذلك، يصر آخرون على ضرورة إدانة نابليون بدلا من إحياء ذكراه.

وكتب لويس جورج تين، المؤلف والناشط، وأوليفييه لو كور غراندمايزون، عالم السياسة، الشهر الماضي في صحيفة لوموند: “كيف نحتفل برجل كان عدوا للجمهورية الفرنسية ولعدد من الشعوب الأوروبية وأيضا عدوا للإنسانية لأنه كان مستعبدا؟”.

وجادلوا بأنه يجب تحويل Les Invalides إلى متحف للجمهوريات الفرنسية الخمس. وتجب إعادة رفات نابليون، مثل رفات فرانكو في إسبانيا إلى عائلته. فقد قطعت رفاته بالفعل مشوارا طويلا واستغرق وصوله إلى فرنسا 19 عاما في عام 1840، بعد وفاة نابليون بمفرده عن عمر يناهز 51 عاما في المنفى الذي فرضته بريطانيا على جزيرة سانت هيلانة النائية الواقعة في جنوب المحيط الأطلسي.

وكتب جان دورليان، سليل الملكية الفرنسية، في لوفيغارو مشيرا إلى أحد أعظم انتصارات نابليون العسكرية: “نعم، يجب أن ينحني رئيس الدولة، القائد العام، عند قبر المنتصر في أوسترليتز”، مضيفا أن تكريم نابليون يرقى إلى “تكريم الشعب الفرنسي وتكريم أنفسنا”.

كتب جان دورليان، سليل الملكية الفرنسية، مشيرا إلى أحد أعظم انتصارات نابليون العسكرية: “نعم، يجب أن ينحني رئيس الدولة، القائد العام، عند قبر المنتصر في أوسترليتز”

ومع ذلك، فإن هذا الجنرال اللامع الذي حارب لتحرير أوروبا من الأغلال الإقطاعية للنظام الملكي أعاد العبودية بمرسوم في منطقة البحر الكاريبي الفرنسية عام 1802، بعد إلغائها بعد الثورة عام 1794. وتم قمع الثورات في غوادلوب ومستعمرة سان دومينك الفرنسية آنذاك، هايتي وجمهورية الدومينيكان الآن، بلا رحمة. وانتصرت هايتي وأعلنت استقلالها عام 1804 وألغت العبودية. فرنسا، الدولة الوحيدة التي أنهت العبودية ثم أعادت العمل بها ولم تقم بإلغاء العبودية حتى عام 1848.

وعادة ما يحجب هذا التاريخ بجاذبية الملحمة البونابارتية. الآن، كما هو الحال مع الكشف عن امتلاك ثوماس جيفرسون للعبيد في أمريكا، أو الانتقاد في بريطانيا العام الماضي لتشرشل لتعليقاته حول التسلسل الهرمي العرقي، فإن العصر الجديد له تركيز جديد.

وقال كلود ريبي، الذي أثار كتابه “جرائم نابليون” احتجاجا عند نشره عام 2005 بسبب وصفه للوحشية الفرنسية في منطقة البحر الكاريبي: “يمكننا إحياء ذكراه، لكن لا نحتفل به أبدا، بسبب ظل عنصريته، والذي لا يزال يمكن الشعور به في فرنسا اليوم”.

اكتسبت وجهة النظر هذه بعض التقدم مع شروع فرنسا في إعادة التقييم، بتشجيع من ماكرون، لماضيها الاستعماري، ولا سيما في الجزائر، وبدأ نقاش حاد حول ما إذا كان النموذج العالمي المزعوم لعمى الألوان في البلاد يخفي عنصرية على نطاق واسع.

وقالت جوزيت بوريل لينكرتين، الرئيسة الاشتراكية لمجلس المقاطعات في غوادلوب [أرخبيل في البحر الكاريبي]، لصحيفة لوموند إن مجتمعها لن يشارك في تكريم نابليون، الذي يعرف كل مواطن في غوادلوب أنه أعاد العبودية “يمكننا فقط أن نرسل من هذا الجانب من المحيط صدى ألمنا”.

وقد يبدو هذا الصدى خافتا في فرنسا. يبدو الانبهار بنابليون أقوى من أي وقت مضى، كما لو أنه في زمن عدم اليقين الناجم عن الوباء، يجسد كل ما تشعر فرنسا أنها فقدته. تظل حياة نابليون حكاية لكثير من الناس، بما في ذلك ماكرون، عن الفعل الوطني والعظمة – معيبة، بلا شك، عنيفة بلا شك، لكنها تحويلية.

ويعلق كوهين أن هذا الجنرال في العشرينات من عمره، الذي حمل الرسالة المناهضة للمؤسسة الدينية لثورة 1789 إلى جميع أنحاء أوروبا، هذا العقل المدبر لمعارك مارينغو وأوسترليتز، يمثل جوهر الجرأة والعبقرية الفرنسية لفرنسا التي يجب أن تقبل لنفسها الآن أن تكون قوة متوسطة الحجم.

وقال الكاتب باسكال بروكنر: “لماذا هذا الهوس؟ لأنه مع نابليون، أصبح الديك الفرنسي نسرا إمبراطوريا. الآن أصبح مجرد دجاجة عجوز متعبة على برج الجرس”.

وجسّد إريك زمور، مؤلف كتاب “الانتحار الفرنسي”، وجهة نظر اليمين لنابليون. فيشير زمور إلى أنه كان هناك حاجة لأوروبا بأكملها كي تهزم نابليون في عام 1815. وبحلول عام 1940، سحقت ألمانيا النازية فرنسا في ثلاثة أسابيع. واليوم، بحسب زمور، تواجه الدولة صعوبة حتى في السيطرة على حدودها.

إن هذه الصورة للانحدار الفرنسي هي التي كانت وراء رسالة الشهر الماضي من 20 جنرالا متقاعدا وصفت فرنسا بأنها في حالة “تفكك” وحذرت من احتمال وقوع انقلاب. وأشادت مارين لوبان، الزعيمة اليمينية وأقوى منافس لماكرون في الانتخابات الرئاسية العام المقبل، بهذا الأمر.

هذا هو السياق الدقيق لتكريم ماكرون لرجل وصل إلى السلطة في انقلاب. في 9 أيار/ مايو، سيحتفل بيوم أوروبا، وهو احتفال بالوحدة في أوروبا، التي حولها نابليون إلى ساحة مذابح اختزلها الرسام الإسباني غويا في لوحة “الثالث من مايو”. وفي اليوم التالي، 10 أيار/ مايو، سيحيي ماكرون ذكرى القانون الصادر في عام 2001 والذي يعترف بالرق كجريمة ضد الإنسانية.

وقال المتحدث باسم الحكومة غابراييل أتال: “إحياء الذكرى هو أن تكون أعينكم مفتوحتين على تاريخنا وأن تواجهوه، حتى فيما يتعلق بالخيارات التي تبدو اليوم موضع شك”.

 ويعتقد الكاتب أن اختيار ماكرون هو قرار سياسي وشخصي. ففي ظل حالة اليسار البائسة فالتحدي الرئيسي الذي يواجهه هو من اليمين، لذا فإن وضع إكليل من الزهور على قبر نابليون هو أيضا وسيلة لمواجهة لوبان. لكن افتتانه بنابليون – مثله، وهو شاب محلي مغرور جاء إلى السلطة من العدم بمهمة لإعادة تشكيل فرنسا وتغيير أوروبا – كان واضحا منذ فترة طويلة في تأملاته المتكررة حول حاجة فرنسا إلى “طموح وجرأة متجددة”.

وقالت نيكول باشاران، أستاذة العلوم السياسية “ماكرون هو راستينياك”، في إشارة إلى بطل رواية بالزاك الذي يغزو باريس بسحره ومكره. “وفي النطاق الأدبي والسياسي والاستراتيجي والعسكري والفكري لنابليون، يجد مصدرا للإلهام”. وكذلك أيضا حقيقة أن فرنسا كانت آنذاك “مركز العالم، للأفضل أو للأسوأ”.

 ويعيد الكاتب ما قام به ماكرون عندما أخذ الرئيس دونالد ترامب إلى سرداب نابليون في عام 2017 – كان الرؤساء الفرنسيون يميلون إلى تجنب مرافقة القادة الأجانب هناك، لأن هتلر زار قبر نابليون في Les Invalides في عام 1940. إذا كان هذا درسا في التاريخ، فقد كانت له نتائج مختلطة. كان تلخيص ترامب “انتهى نابليون سيئا بعض الشيء”. وكرئيس ولد بعد صدمة حرب الاستقلال الجزائرية، يريد ماكرون مواجهة التاريخ الصعب، لأنه يعتقد أن الانفتاح سيؤدي إلى الشفاء. لقد أدى هذا التصميم إلى نقاش تمس الحاجة إليه، حتى داخل حكومته.

وصفت إليزابيث مورينو، وزيرة المساواة في فرنسا، نابليون بأنه “أحد أعظم كارهي النساء”. ينص قانون نابليون، الذي تم تعديله منذ فترة طويلة، على أن “المرأة تدين بالطاعة لزوجها”، وهو الرأي المألوف في ذلك الوقت.

وأشار فرانسوا رينيه دي شاتوبريان، الكاتب والدبلوماسي الفرنسي في القرن التاسع عشر، إلى أن نابليون “خذل العالم حيا، وغزاه ميتا”. شيء ما في التحول الاستثنائي في حياته من المجد الإمبراطوري إلى جزيرة وفاته لن يسمح للخيال الفرنسي أن يهدأ. قد يكون السبب هو الواقعية التي اكتسبها نابليون بشق الأنفس، كما عبر عن ذلك في جزيرة سانت هيلانة لسكرتيره، إيمانويل دي لاس كيسز.

وقال نابليون لمساعديه: “الثورة من أعظم العلل التي يمكن أن تصيب بها السماوات الأرض.. إنها بلاء الجيل الذي يصنعها؛ أي مكاسب تحصل عليها لا يمكن أن تعوض الضيق الذي ينتشر في جميع مناحي الحياة. تثري الفقراء الذين لا يرضون. وتفقر الأغنياء الذين لن ينسوا أبدا. إنها تقلب كل شيء، وتجعل الجميع غير سعداء، ولا تجلب السعادة لأحد”.

بالنسبة لنابليون، كما هو الحال بالنسبة لجميع البشر، فقد ثبت أنه من المستحيل الهروب من الزمان الذي عاش فيه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صاحب رأي:

    ما لفت انتباهي في هذا المقال هي الكلمات الحسرة و الندم التي انها بها نابليون حياته بعد ثورة و انقلاب و حروب و استعمار؛:::: “الثورة من أعظم العلل
    ‎التي يمكن أن تصيب بها السماوات الأرض.. إنها بلاء الجيل الذي يصنعها؛ أي مكاسب تحصل عليها لا يمكن أن تعوض الضيق الذي ينتشر في جميع مناحي الحياة. تثري الفقراء الذين لا يرضون. وتفقر الأغنياء الذين لن ينسوا أبدا. إنها تقلب كل شيء، وتجعل الجميع غير سعداء، ولا تجلب السعادة لأحد”.

    عندما اقارن ما قاله قبل موته نابليون و بما انهى به سيدنا محمد عليه الصلاة السلام مسيرة كنبي و كقائد و حياته الدعوية
    “اليوم اكملت لكم دينكم و اتممت علكيم نعمي و رضيت لكم الاسلام دينا”

    تجد في كلمات هذا الوحي الرباني كل معاني الرضى و الامل الذي ترك عليه امته قبل ان يموت بغض النظر عن ما يمكن للمتامل في التاريخ ان يحكم عن سيرة الصحابة بعد موته صلى عليه وسلم الا ان هذا دليل على نفسية من كان يعلم انه اذى الامانة و بلغ الرسالة و مات وهو راض على ما حققه

    1. يقول محمد محمود:

      أدى الأمانة وليس أذى الأمانة إنتبه لقد تغير المعنى كليا.

    2. يقول عجلة التطور:

      الثورات احيانا لا بد منها، فلا يجب ان يتحرج منتفع من الكلمة ويرتفع ضغطه ككفار قريش من الإسلام. الثورة تعني اسقاط هرم الفساد والتنعم والاسراف والتسلط لفئة قليلة غير شرعية على الاغلبية ولصالح الاغلبية وكان الاسلام اعظم ثورة وممن نصبهم لورنس ويايكس وبيكو يمقتون ااربيع العربي والاصلاح وإقامة العدل والقصاص واعادة الحقوق وتوزيع الثروات وتمكين الكفاءات والمؤهلات والخبرات والإبداعات وليس العشائر والمحسوبيات والولاءات الخاصة.

  2. يقول محمد شهاب أحمد:

    صعب تحديد ما الذي يصنع الأبطال و ما هي العوامل التي تدفع الشعوب تمجيد من تراه بطلاً .
    في إعتقادي صدام حسين سيعود ليشغل مكانة عالية في تاريخ العراق لسبب واحد ، ليس أعماله التي بنتائجها جائت بالخراب ، و لكن لأن غزاة أزاحوه و أضافوا أضعاف من الدمار

إشترك في قائمتنا البريدية