حكاية السينمائية الإسرائيلية أنات شوارتز مع صحيفة «نيويورك تايمز» ليست جديدة أو طارئة، إلا في مستوى شبه وحيد يعكس مقدار الانحطاط الذي يمكن أن تهبط إليه مطبوعة غير عادية؛ لأنها ببساطة جريدة/ مؤسَّسة إعلامية وسياسية أمريكية عملاقة، كما يتوجب التذكير. ولم يبدّل من جوهر الفضيحة، ولا حتى شكلها في الواقع، أنّ إدارة الصحيفة اضطرّت مؤخراً إلى إعلان العزم على التحقيق مع شوارتز بصدد الأكاذيب الفاقعة والملفقة والمزوّرة التي روّجت لها الأخيرة، وفتحت الصحيفة لها صدر صفحاتها.
الحكاية بدأت أواخر العام المنصرم 2023 حين تعاقدت الصحيفة الأمريكية مع شوارتز، التي لم تكن يومذاك تمتلك أية خبرة أو ممارسة صحفية، ومع قريب لها يُدعى آدم سيلا، والكاتب الأمريكي جيفري غيتلمان (الحائز على جائزة بوليتزر!)؛ لكتابة تقرير صحفي سوف يُشتهر عالمياً تحت عنوان «صرخات بلا كلمات»، يزعم أنّ جولات «اغتصاب جماعي» ارتكبها رجال المقاومة الفلسطينية خلال عمليات «طوفان الأقصى». وكلّ ما كلّفت «نيويورك تايمز» خاطرها به عند نشر هذه الحكاية كان مجرد تنويه بعدم وجود «دليل جنائي» على الواقعة.
وكما بات معروفاً لاحقاً، فإنّ التفضيح الأوّل للتلفيق هذا جاء من أحد أقارب الضحايا المزعومين، غال أبدوش، ثمّ من أفراد العائلة المسماة؛ جاء فيه أنه لم يكن هناك أيّ دليل على الاغتصاب، وأنّ «نيويورك تايمز» استجوبتهم ضمن «مزاعم زائفة». شوارتز نفسها أوحت بأنّ مهمة الصحيفة الأمريكية كانت «الترويج لسردية محددة مسبقاً»؛ وأمّا المصوّرة إيدن ويزلي، التي قيل إنّ صورها وفّرت بعض الدليل على المقالة، فقد أوضحت أنّ شوارتز تواصلت معها بإلحاح لتقديم مادة فوتوغرافية تخدم «مقالة بالغة الأهمية للدعاية الإسرائيلية».
وإذْ كرّت سبحة التشكيك في مصداقية السينمائية الإسرائيلية، المنقلبة إلى مراسلة لواحدة من أعرق الصحف الأمريكية، اتضح أنها كانت قد أيدت علانية، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، تعابير مثل «الحيوانات البشرية» أو «تحويل غزّة إلى مسلخ بشري»، أو «خرق أيّ عرف، على طريق الانتصار». ذروة الفضيحة/ المهزلة كانت اضطرار شوارتز، بعد انكشاف المزيد من أنساق التلفيق، إلى الإقرار على شاشة القناة 12 الإسرائيلية بأنها «لم تجد أيّ دليل مباشر على حوادث اغتصاب أو عنف جنسي»، قبل نشر مقالة «نيويورك تايمز» أو بعدها.
جانب آخر في الفضيحة، يدين تحرير الصحيفة مباشرة هذه المرّة ويرقى إلى مستوى التزوير القصدي المخالف للحدود الدنيا في الضمير المهني، كان علم «نيويورك تايمز» المسبق بأنّ كتّاب مقالة الاغتصابات المزعومة استندوا إلى روايات زوّدهم بها عناصر منظمة إسرائيلية تدعى ZAKA، لعبت العديد من الأدوار في تلفيق روايات إسرائيلية عن وقائع 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 لجهة تجميع جثث القتلى الإسرائيليين والإشراف على دفنهم؛ ولكنّ التحرير وافق، في المقابل، على استخدام تعبير «متطوعون في العمل الصحي»، بدل الإفصاح عن الهوية الفعلية للعاملين في المنظمة الإسرائيلية.
ولم يكن عسيراً على تحرير الصحيفة الأمريكية/ المؤسسة العملاقة أن يتحقق، بيسر وخلال زمن قياسي قصير، من أقاصيص التلفيق التي روّجت لها منظمة ZAKA، ونشرتها قبل «نيويورك تايمز» منابرُ مثل CNN وBBC؛ وتولت تفضيحها جهات عديدة، بما في ذلك صحيفة «هآرتز» الإسرائيلية ذاتها، التي نشرت قائمة مفصلة بأكاذيب المنظمة الإسرائيلية التي رفض مسؤولون في الجيش الإسرائيلي مجرد التعليق عليها، وبينها حكاية بَقْر بطن امرأة إسرائيلية حامل وطعن جنينها.
وهكذا فإنّ حكاية شوارتز مع «نيويورك تايمز» ليست سوى الفصل الأحدث في تاريخ طويل حافل شهد ارتكاب الصحيفة الأمريكية انتهاكات متعاقبة لما تبقى لديها من مصداقية؛ وتلك، في مضمونها الفعلي، خيانات صفيقة معلَنة، لما تبقى للصحيفة من مزاعم ضمير مهني.