هآرتس.. رداً على المؤتمر الكهاني: “غوش قطيف” لم تكن مزدهرة بل كارثة بيئية تنغص حياة الفلسطينيين

حجم الخط
0

في 2/2/2004، قبل عشرين سنة، استدعى رئيس الحكومة في حينه أريئيل شارون، مراسل “هآرتس” يوئيل ماركوس لوجبة فطور في مزرعته “حفات هشكميم”، وعرض عليه تفاصيل خطة الانفصال عن غزة. وخلال بضعة أيام، بدأ المستوطنون في غزة نضالاً عنيداً ضد الخطة. أدير هذا النضال في مبنى مجلس شاطئ غزة، في مستوطنة “نفيه دكاليم”. كان معلقاً على الحائط صور جوية كبيرة للقطاع، قبل وبعد الاستيطان اليهودي. الصورة الأولى كانت لكثبان رمال فارغة تبدو قفراء، والأخرى لمساحات خضراء، دفيئات وحدائق قرميد.
هذه الصور خدمت رواية سكان المستوطنات في غزة ورؤسائهم، الذين اعتبروا أنفسهم طلائعيين أقاموا منطقة مزدهرة في البلاد. هذه هي الروح التي سادت في لقاء النشوة الذي عقد الأحد الماضي في القدس تحت شعار “إعادة الاستيطان في قطاع غزة”. كرر المتحدثون مقولة أن “غوش قطيف” كانت منطقة في طور الازدهار، إلى أن تمت تصفيتها في عملية الانفصال. ولكن نظرة قريبة للصورة الجوية تكشف حقيقة مختلفة عن “غوش قطيف”.
معظم الخضرة التي ظهرت في الصورة الجوية لم تكن مسطحات خضراء أو مزروعات أو أشجار، بل نمو كثيف لشجرة اسمها “أكاسيا” (شجرة الصنت المزرق)، وهي معروفة كنوع من الأنواع الغازية والضارة جداً في البلاد. تم جلبت الشجرة إلى البلاد البريطانيون الذين أرادوا استخدامها لتثبيت الرمال المتحركة، وقد خرجت عن السيطرة وانتشرت على مساحات واسعة، خصوصاً على طول الشاطئ. تنتشر هذه الشجرة في الأراضي الخصبة حيث مس بطبقة الأرض العليا بسبب شق الشوارع أو البناء.
وجدت هذه الشجرة في كل زاوية في “غوش قطيف”، لم تكن الخضرة في الصورة الجوية ازدهاراً، بل كارثة بيئية. ونظرة أخرى إلى الصورة تكشف حفراً ضخمة في بضعة أماكن في “غوش قطيف”، نتيجة للمقالع الرملية الضخمة التي أقامها المستوطنون. الرمال مورد يتناقص باستمرار، ويباع لفرع البناء في إسرائيل، خلافاً للقانون الدولي الذي يحظر إخراج مقالع الرمال من الأراضي المحتلة، الأمر الذي أثرى صناديق المستوطنات في القطاع.
الدفيئات التي ظهرت في الصورة كانت لمزروعات تستخدم قوة بشرية كبيرة، بالأساس المزروعات الورقية والتوابل. المزارعون في إسرائيل وفي الضفة الغربية كان يصعب عليهم منافسة القوة البشرية الرخيصة التي كانت تتدفق كل صباح من خانيونس إلى مستوطنات “غوش قطيف” لتعزيز هذه المزروعات. أما أسطح القرميد فكانت غريبة على المشهد وعلى المناخ في غزة.
“غوش قطيف” لم تكن في يوم ما جزءاً مزدهراً من البلاد، بل كانت تجمعاً لمستوطنات صغيرة جداً، 8 آلاف نسمة في 21 مستوطنة، وبعضها شبه متروكة. كان يمكن الشعور بذلك عندما كانت الرمال تغطي جزءاً من شوارعها. الجميع هناك اعتمدوا على قوة العمل الفلسطينية الرخيصة وعلى استخراج الرمال والعمل في الخدمات العامة.
كانت المستوطنات تنتشر فوق مساحة كبيرة، ربع مساحة القطاع، التي كان يعيش فيها تقريباً 0.5 في المئة من السكان. يجب القول إن “غوش قطيف” أقيمت في المنطقة الأكثر جمالاً في قطاع غزة، شاطئ البحر البري، كثبان الرمال والزراعة التقليدية لقبائل المواصي. ولكن هذا الجمال وعدد السكان القليل نسبياً، كان محاطاً بمنظومة لا تصدق من الحماية العسكرية التي شوهت كل زاوية في هذه الكتلة، جدران من كل الأنواع، وأبراج مراقبة، ومواقع، ودوريات وعدد كبير من الجنود، عملت على تأمين البلدات قليلة السكان والتي يتم إنعاشها بالميزانيات الحكومية.
مساحات شاسعة حول الشوارع والمستوطنات تم تنظيفها من البيوت واكوام الركام المنتشرة حولها. وللمفارقة، جاءت مستوطنة “نتساريم”، التي كانت على مدخل مدينة غزة. وأي خروج أو دخول إلى هذه المستوطنة كان يتم من خلال سيارة عسكرية مصفحة، وليس في حافلة محصنة بل ناقلة جنود محصنة، بمرافقة قوة كبيرة من الجنود. يجب قول الحقيقة: لم يكن لمستوطنات “غوش قطيف” حق في الوجود يوماً ما، بدون أي صلة بقرار أريئيل شارون. هذا صحيح، بدون أي صلة برؤية سياسية.
لم يكن لـ”غوش قطيف”، حتى أكثر من مستوطنات الضفة الغربية، أي حق في الوجود لأسباب اقتصادية واجتماعية وبيئية وتخطيطية. كان الأمر يتعلق بتشويه سياسي أدى إلى تشويه استيطاني وجغرافي، الذي نغص حياة آلاف الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون حوله، ونغص على الجنود الذين قاموا بحراسته، ونغص حتى على سكانه أنفسهم، حتى لو لم يعترفوا بذلك، فالهدف من إقامته لم يكن استيطان جزء من البلاد أو تقديم حل للسكن، بل وضع إصبع في العين واستعراض فارغ للسيادة.
في هذه الأيام التي يصعب تحملها، ورغم المؤتمر الجماهيري الحاشد والانفعالي والكهاني، فإن “غوش قطيف” لن تعاد إقامتها في أي يوم.
نير حسون
هآرتس 30/1/2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية