دخلت إسرائيل إلى مرحلة جديدة في الحرب، قبل أسبوع من انقضاء سنة على اندلاع الحرب. أمس، بدأ الجيش الإسرائيلي فيما وصف بـ “عملية برية مركزة” جنوبي لبنان. ستتركز العملية في المرحلة الأولى على البنى التحتية العسكرية التي أقامها الحزب قرب الجدار، استعداداً للهجوم ضد مستوطنات ومواقع على الحدود الشمالية. بعد سلسلة الضربات التي تلقاها حزب الله في الأسابيع الأخيرة، فمن المرجح أن حجم النيران التي بإمكانه إطلاقها على إسرائيل تقلص. مع ذلك، سيرافق بداية المرحلة البرية احتكاك مع رجال حزب الله الذين بقوا جنوبي لبنان، وقد تؤدي إلى خسائر.
هجوم إسرائيل على حزب الله الذي كانت ذروته اغتيال رئيس الحزب، حسن نصر الله، سيكون حدثاً تأسيسياً في الشرق الأوسط. أضرت إسرائيل بقوة حزب الله العسكرية وأضعفت مكانته الإقليمية ووضعت علامة استفهام كبيرة أيضاً على استراتيجية أسياده في إيران وعلى قدرتها الفعلية على تحقيق أهدافها الطموحة. بعد هجوم حماس في 7 تشرين الأول، اعتقد رؤساء المحور الراديكالي الإقليمي بأن ضعف إسرائيل يسمح بتسريع “خطة التدمير” التي بدأت إيران في نسجها، ولكن الظروف تتغير بسرعة الآن. وطهران وتوابعها باتوا في موقع الدفاع.
يبدو أن الزعيم الإيراني الأعلى، علي خامنئي، لم يقدر بأنه سيضطر بعمر 85 إلى أن يكون قائداً في فترة الحرب. لم يعد يقلقه فقط وضع رعاياه في أرجاء المنطقة، بل مصير المشروع النووي الإيراني، وربما استقرار حكمه. بعد سنة مترددة في الجبهة الشمالية، أخذت إسرائيل زمام المبادرة في المواجهة وعرضت قدرة تكنولوجية وعملياتية تثير الانطباع. ربما يتعلق الأمر الأكثر إقلاقاً لإيران بالاختراق الأمني الذي انكشف في صفوف حزب الله. حسب تقارير أخرى (من بينها التقرير حول اغتيال إسماعيل هنية في طهران)، انزلق هذا الاختراق إلى صفوفهم أيضاً. بأثر رجعي، يتبين أن رئيس حماس، السنوار، كان على حق عندما قرر عدم إشراك إيران وحزب الله في 7 أكتوبر. ربما كان نقل السر للساحة الشمالية سيوقظ الاستخبارات الإسرائيلية من سباتها العميق في الجنوب.
رغم النجاح العسكري في غزة، لم تتمكن إسرائيل من ترجمة هذه الإنجازات إلى تغير استراتيجي بعيد المدى. منذ فترة طويلة، توصي المنظومة الأمنية بالقيام بترتيبات جديدة في القطاع، بالاندماج مع تدخل دولي، وأوصت بتحديد سلطة فلسطينية بديلة تشمل تمثيلاً للسلطة الفلسطينية. رئيس الحكومة نتنياهو عارض ذلك بشدة، لاعتبارات أيديولوجية، لكنه تأثر أيضاً من معارضة شركائه في الائتلاف من اليمين المتطرف، الذين أصروا على إفشال أي تقدم نحو صفقة تبادل أخرى. لم يعد نتنياهو يسعى إلى “النصر المطلق” كما تبجح، بل يريد “حرباً خالدة”.
إن خلق وضع جديد في لبنان مرهون بقوة إنجازات إسرائيل العسكرية، إضافة إلى الخطوات السياسية البديلة التي يجب البدء بها. ثمة صعوبة أمام الإدارة الأمريكية التي بررت معظم هجمات إسرائيل وقدمت المساعدة الدفاعية، لكنها غاضبة من خطوات نتنياهو. الأمريكيون يغضبون من نتنياهو بسبب إحباطه المتعمد لجهود وقف إطلاق النار، ولأن إسرائيل أبلغتهم عن هجماتها بشكل متأخر. وهم الآن يحذرون رئيس الحكومة من العملية البرية ويخشون أن تؤدي إلى تورط طويل في جنوب لبنان، وحتى حرب إقليمية. نتنياهو، كما تعود منذ بداية الحرب، بصعوبة يحسب حسابهم. والسؤال هو: متى سيشد الحبل أكثر؟
تنطوي العملية البرية في لبنان على خطر وقوع إصابات وتورط غير متوقع في السيطرة على الأرض وتدهور إلى عملية أوسع لحماية القوات التي ستدخل وتواجه المقاومة. وتدمير منشآت حزب الله في قرى جنوب لبنان قد يكون حبة مهدئة لسكان الشمال المخلين في إسرائيل، الذين سيترددون في العودة إلى بيوتهم حتى بعد عمليات القصف في بيروت وفي البقاع. بالنسبة لهم، الخطر الذي يجب علاجه موجود وراء الجدار.
حنين غدار، الخبيرة اللبنانية في شؤون حزب الله في معهد واشنطن لأبحاث الشرق الأوسط، كتبت أن إيران ستحتاج إلى سنوات لإعادة بناء قدرة حزب الله العسكرية. وذكرت بأن حسن نصر الله كان رجل الاتصال الرئيسي للحزب مع إيران، وكان شخصية رئيسية تحمي وتعيل الكثير من الشيعة في لبنان. ومن سيخلفه، سيواجه فترة بائسة في الحزب. عمل حزب الله على تقديم الدعم العسكري واللوجستي للمليشيات المؤيدة لإيران في أرجاء الشرق الأوسط. والآن ستفعل ذلك “قوة القدس” التي سيحاول قادتها أيضاً المساعدة في إعادة ترميم قدرات حزب الله في لبنان.
تتوقع غدار أن تجد إيران صعوبة في قيادة عملية هجومية حقيقية من لبنان ضد إسرائيل، إزاء ما حدث. وتعتقد أن الوضع الذي نشأ سيمكن المجتمع الدولي من المساعدة في إبراز قيادة بديلة للشيعة في لبنان وللدولة نفسها. ستسنح له العالم، حسب قولها، فرصة للاستثمار في مستقبل لبنان بعد وقف إطلاق النار. الولايات المتحدة يمكنها التأثير على التطورات بواسطة برنامج مساعداتها للجيش اللبناني، ودعم تشكيل حكومة تمثيلية حقيقية، غير مرهونة بيد حزب الله.
تنشغل الإدارة الأمريكية في الإعداد للانتخابات الرئاسية، لكن خطورة الوضع في الشرق الأوسط يجب أن تحثها على اتخاذ خط ناجع أكثر وإظهار مقاربة متشددة أكثر تجاه إيران وحزب الله. نشر أمير تيفون في “هآرتس” بأن الولايات المتحدة حذرت إيران من مهاجمة إسرائيل، السيناريو المعقول إزاء الضربة التي تلقاها محور إيران، سيكون رد إسرائيل أشد من الرد في منتصف نيسان.
على إسرائيل والولايات المتحدة أن تأخذا في الحسبان ردوداً إيرانية من نوع آخر، مثل تجاوز خط تخصيب اليورانيوم إلى مستوى 90 في المئة، وهي خطوة كبيرة وعلنية في المشروع النووي الذي ترددت طهران في اتخاذها حتى الآن. مع ذلك، تشعر إيران الآن بأنها محمية بشكل أقل إزاء مهاجمة المنشآت النووية. تهديد حزب الله، على شكل إمكانية توجيه ضربة أخرى إذا تمت مهاجمة إيران، ضعف بشكل كبير. ومنظومات الدفاع الجوية الإيرانية قابلة للاختراق بشكل كبير.
نقاط ضعف إيران واضحة جداً، وهو ما يشجع تصريحات وتقديرات لمهاجمة إسرائيل للمنشآت النووية، التي سمعت في الأستوديوهات، وربما تنزلق أإلى محيط نتنياهو. من سيدفع بهذا الاتجاه، بدون خطوات إيرانية واضحة للدفع قدماً بإنتاج القنبلة، يخاطر بأزمة مباشرة مع الإدارة الأمريكية وبحرب إقليمية.
الأمر المقلق جداً في الأسبوع الأخير هو حالة النشوة التي سيطرت على محللين وجنرالات في الاحتياط. يمكن تفهم الحاجة إلى الاحتفال بالإنجازات بعد 7 تشرين الأول، لكن من الجدير عدم الخطأ في التفكير بإمبراطورية إسرائيلية عظيمة القدرات التي ستملي طلباتها على كل الشرق الأوسط. من الأفضل التركيز على تحسين الواقع في جنوب لبنان بصورة تمكن من عودة سكان المنطقة الشمالية إلى بيوتهم، وفي الوقت نفسه عدم نسيان المخطوفين في غزة، الذين أُبعدوا عن أي حوار جماهيري.
فشل أخلاقي
يظهر في موضوع غزة مرة أخرى خطاب متزايد حول ما يسمى “خطة الجنرالات”- فكرة طرحها الجنرال احتياط غيورا آيلاند، تقوم على دفع مئات آلاف الفلسطينيين الذين بقوا شمالي القطاع نحو الجنوب، إلى ما وراء ممر نيتساريم، وتجويع وتعطيش من يصممون على البقاء هناك. يعتقد آيلاند أنه بذلك يمكن زيادة الضغط على قيادة حماس في جنوب القطاع، وفي الوقت نفسه، العمل ضد مسلحي حماس الذين يعملون شمالي القطاع. وقد أوصى الجيش بالسيطرة على توزيع المساعدات الإنسانية وأخذها من يد المنظمات الدولية.
لهذه الخطة دعم متزايد، وحتى متحمس، في المستوى السياسي وقيادة المنطقة الجنوبية. من بين المؤيدين لتنفيذها مستوطنون يعتبرون ذلك مدخلاً لإعادة بناء المستوطنات في شمال القطاع، خلافاً لتصريحات نتنياهو السابقة. وفي الجيش يمكن إيجاد ضباط لهم أجندة أيديولوجية وعلاقات سياسية متشعبة يعملون على تنفيذها. صوت رئيس الأركان هرتسي هليفي لم يسمع بعد حول ذلك، رغم أنها خطوة قد تؤدي إلى تعقيد دولي وتعريض حياة المخطوفين للخطر.
إن المضي بهذه الأفكار من وراء الكواليس يندمج مع تعزز نفوذ الضباط المسيحانيين في مناصب رفيعة في الفرق العاملة في القطاع. تظهر حواسيب إحدى الفرق نافذة مخصصة لنقل المساعدات الإنسانية للسكان وبجانبها عنوان “نقل المؤن للعدو”. عندما تكون هذه هي الروح السائدة، فلا غرابة ألا يسمح قادة في الميدان بنقل المساعدات كما هو مطلوب. وثمة قادة كبار من بينهم من يفسرون أن لا معنى لأوامر فتح النار، لأن أي فلسطيني يدخل إلى منطقة تحظر الحركة فيها يعتبر مخرباً ويستحق الموت. فشلت هيئة الأركان في فرض سلوك قيمي والمطالبة بانضباط عملياتي للقوات في القطاع. الآن عندما انتقل كل التركيز إلى الشمال، يزداد الوضع خطورة.
في هذه الأثناء، حصلت فرقة احتياط على بلاغ سيتم بحسبه تمديد خدمتها لبضعة أسابيع، حتى تشرين الثاني. ويمكن تشخيص علامات استفهام في أوساط جنود الجيش النظامي الذي تقاتل بعض وحداته منذ اليوم الأول للحرب. تذكر بعض منهم برنامج “أرض رائعة” عن النصر المطلق، الذي بث في شباط: نتنياهو يلتقي مع جنود في القطاع ويشرح لهم بأن عليهم العودة مرة أخرى إلى الشمال في نهاية “العمل الممتاز” الذي قاموا به في جنوب القطاع، لأنه لم يكلف نفسه عناء إقامة هناك سلطة بديلة لحماس. وبعد ذلك، سيعودون مرة أخرى إلى الجنوب، وهكذا دواليك.
الجيش الإسرائيلي يضرب حزب الله وحماس في الشمال والجنوب، ولكن عندما تسنح فرصة استراتيجية للتغيير فستتجاهلها إسرائيل أو تختار حلولاً مشكوكاً فيها. خطوات نتنياهو محسوبة أكثر على الصعيد السياسي: ضم جدعون ساعر للحكومة يعزز الائتلاف ويصعب القدرة على الابتزاز من قبل بن غفير. ظهر أن نوايا نتنياهو هو البقاء في الحكم لسنتين قادمتين، حتى موعد الانتخابات المخطط لها في الأصل. وحتى ذلك الوقت، يتمسك نتنياهو بخطة الحرب الخالدة، حتى لو تآكلت الإنجازات الأخيرة، واستمر الاقتصاد في التحطم وبقي المخطوفون في أنفاق غزة.
عاموس هرئيل
هآرتس 1/10/2024