هارولد بنتر: علامات ما لا نسمع

حجم الخط
2

لا تخفي هذه السطور بهجة شخصية غامرة إزاء قرار سلسلة الدراما في دار النشر الإنكليزية العريقة Methuen إصدار كتاب جامع بعنوان «هارولد بنتر: مسارح، شبكات، متعاونون»؛ بتحرير بازيل شياسون وكاتريونا فالو، في 240 صفحة، ومساهمات من ثمانية كتّاب (بينهم التركي إبراهيم يربكان، أستاذ الأدب الدرامي والفنون المسرحية في جامعة ريز، الذي أسهم بفصل عن بنتر والشرق الأوسط). مصدر البهجة ليس إضافة عمل جديد إلى عشرات المؤلفات التي تصدر عن المسرحي البريطاني الكبير كلّ عام، بل حقيقة أنها تجهد لتناول تراثه من زوايا جديدة لا يخلو معظمها من حسّ تحدّي المألوف والشائع، من جانب أوّل؛ كما تستعيد، من جانب آخر لا يقلّ أهمية، سلسلة من الشهادات والآراء والرؤى لأولئك الذين تعاونوا معه خلال مراحل فاصلة من تطوّر خياراته المسرحية، وللشبكات والفِرَق والمسارح التي جمعته بهم.
في عداد الأقسام الأكثر إثارة، وتعمقاً بالطبع، تلك التي تستأنف مقارنات نقدية حول تقاطع مسرح بنتر مع طائفة عريضة من الكتّاب، ليسوا بالضرورة من أهل الدراما والخشبة؛ بينهم شكسبير، فرانز كافكا، مارسيل بروست، صمويل بيكيت، يوجين أونيل، أنطون تشيخوف، أوغست ستراندبرغ، ت. س. إليوت، وإرنست همنغواي.  في فصل إشكالي، جاء تحت عنوان «بنتر النخبة ونخبة بنتر»، يساجل جيمس هدسون بأنّ الشخصية الثقافية/ السياسية، التي انخرط بنتر في بنائها من حول مسرحه وكتاباته ومواقفه، سارت على نقيض من سلوك المجتمعات «المخملية» التي عكفت على استمالته؛ ولكنها، في المقابل، دفعته إلى تشكيل نخبة من طراز آخر تمثلت في جمهور عريض انحاز إليه لأسباب شتى، لم تكن بعيدة تماماً عن الطابع النخبوي لمسرحه التجريبي بصفة خاصة.

السياسة كانت إشكالية في حياة بنتر، وهكذا تبقى بعد 13 سنة على رحيله؛ حتى خلال فترات زمنية شهدت اتهامه بالابتعاد عن السياسة في مسرحياته وقصائده، خاصة تلك التي كانت تعكس المقدار الأعلى من الأصالة والتفرّد والتجريب

ولم يكن غريباً أن يدخل إلى اللغة الإنكليزية، وإلى قاموس أكسفورد أيضاً، اصطلاح الـ Pinteresque المنحوت من اسم بنتر، والذي يفيد ذلك المناخ الدرامي الإنساني الخاصّ: المعقد والبسيط، المحليّ والكوني، الفردي والجمعي، الرحب العريض والضيّق حبيس الحجرة الواحدة، في أن معاً. ولم يكن بغير مغزى أن الأكاديمية السويدية توقفت عند هذا النحت مراراً وهي تطري بنتر، حين فاز بجائزة نوبل للأدب سنة 2005، بل واستزادت حين نحتت من جانبها مصطلحاً ثانياً هو «الأرض البنترية» Pinterland، ذات «الطبوغرافية المميزة، حيث تتمترس الشخصيات خلف حوارات مباغتة، وبين سطور تهديدات لا حلّ لها يكون ما نسمعه علامات على كلّ ما لا نسمعه»، حسب تعبير الأكاديمية. وكانت محاضرة نوبل وثيقة جبارة جديدة برهنت من جديد أنّ بنتر لم يكن واحداً من أعظم أدباء عصرنا، فحسب؛ بل ظلّ أيضاً أحد أنقى ضمائره وأشجعها وأنصعها، من حيث انحيازه الدائم إلى قضايا الإنسان في وجه القوّة الغاشمة.
وقد لا يعرف الكثيرون أنّ التضامن مع أكراد تركيا على خلفية ما يتعرّضون له من قمع واضطهاد سياسي وثقافي وإنساني كان بين القضايا الأساسية التي تبنّاها بنتر وسلّط الضوء عليها. وكان قد رافق الكاتب المسرحي الأمريكي آرثر ميللر في رحلة إلى تركيا، سنة 1985، لكنه بدل السياحة والاستجمام ذهب يحقق في انتهاكات حقوق الإنسان والتقى بعشرات المعتقلين السياسيين السابقين. وأثناء حفلة أقامتها السفارة الأمريكية على شرف ميللر، وبدل عبارات المجاملة واللباقة الدبلوماسية، ألقى بنتر خطبة عنيفة استعرض فيها طرائق أجهزة الأمن التركية في تعذيب السجناء؛ حتى أنّ السفارة لم تجد وسيلة أخرى لإسكاته سوى طرده من الحفلة، فكان أن لحق به ميللر تضامناً. ومعروف أنّ تجربته في تركيا، ومع الأكراد بصفة خاصة، قد أوحت له بكتابة مسرحيته «لغة الجبل».
ولعلّ بين أبرز نقاط ضعف الكتاب أنه يتجاهل، بمعنى عدم إدراج فصل خاص يتناول، بنتر الشاعر؛ رغم أنّ المسرحي الكبير بدأ شاعراً، بل وكانت القصيدة هي أوّل منشوراته، قبل أن ينخرط أكثر فأكثر في الكتابة المسرحية والتمثيل والإخراج. وقصيدته «السنة الجديدة في ميدلاندز»، التي كُتبت في مطالع الصبا، تذكّر كثيراً بمشهد الحانة في قصيدة ت. س. إليوت الشهيرة «الأرض اليباب». وأمّا قصيدته «سأمزّق قبعتي الفظيعة»، 1951، فإنها تمثّل أوضح البواكير على موضوعة الاحتجاج العميق التي ستهيمن على أشعاره بعدئذ: «في سَكْنَة عدائية ذاتَ زمن ليس لأحد/ الأصمّ وحده يسمع والكفيف وحده يفهم/ الأميال التي أتلمّس طريقي عليها/ كلّ الأرواح ستسكنني، وستحتسيني كلّ الشياطين».
والثابت، على مدار أقسام الكتاب الثلاثة وفصوله الـ15، أنّ السياسة كانت إشكالية في حياة بنتر، وهكذا تبقى بعد 13 سنة على رحيله؛ حنى خلال فترات زمنية شهدت اتهامه بالابتعاد عن السياسة في مسرحياته وقصائده، خاصة تلك التي كانت تعكس المقدار الأعلى من الأصالة والتفرّد والتجريب. وكتاب شياسون وفالو يسعى كذلك إلى تبديد الكثير من الالتباس الذي اكتنف علاقة مسرح بنتر بالسياسة، بالمعنى العامّ واليوميّ، ولا يخفي في الآن ذاته مشقّة مهمة كهذه. هنا مسرح يشتغل على الصمت، ولكنه يستنطق شعرية الصمت؛ ويكشف مفردات الذعر الإنساني البسيط من الوجود العاتي، من دون أن يكون وجوديّ الفلسفة؛ ويلتقط دقائق الحيثيات في الموقف البشري اليومي، من دون أن يكون طبيعيّ النزعة…

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الناقد الثقافي:

    «في عداد الأقسام الأكثر إثارة، وتعمقاً بالطبع، تلك التي تستأنف مقارنات نقدية حول تقاطع مسرح بنتر مع طائفة عريضة من الكتّاب، ليسوا بالضرورة من أهل الدراما والخشبة؛ بينهم شكسبير، فرانز كافكا، مارسيل بروست، صمويل بيكيت، يوجين أونيل، أنطون تشيخوف، أوغست ستراندبرغ، ت. س. إليوت، وإرنست همنغواي» ………
    على العكس تماما، كل هؤلاء المذكورين غارقون في الدراما والخشبة حتى النخاع، بمن فيهم من الروائيين كمثل بروست وهمنغواي إلخ …….. !!!!!!؟

  2. يقول آصال أبسال:

    /بقية الكلام/
    أخيرا، القصد من وراء نحت الاصطلاح الإنكليزي Pinteresque، من اسم كنية هارولد بنتر ذاته، إنما هو للدلالة، في المقام الأول، على ما تتصف به أعماله من العالم الإنذاري والإرعادي والتهديدي والوعيدي، وما أشبه ذلك – تماما مثلما أن القصد من وراء نحت الاصطلاح الإنكليزي (والأوروبي) Kafkaesque، من اسم كنية فرانتز كافكا عينه، إنما هو للدلالة، في الأساس كذلك، على تتسم به أعماله من العالم الكابوسي والجاثومي والجائحي والكارثي، وما شابه ذلك.. وفي حقيقة الأمر، ها هنا أيضا، ما ذكره صبحي حديدي من توصيفات ثنائية للإشارة إلى عالم بِنْتَر، كمثل التوصيفات بـ«المعقد والبسيط»، و«المحليّ والكوني»، و«الفردي والجمعي»، و«الرحب والضيّق»، إلى آخره، يمكن أن ينطبق بكل سهولة ويسر على عوالم الكثير من الأدباء والكتاب الآخرين، وليس على عالم بِنْتَر، وحسب.. !!

إشترك في قائمتنا البريدية