تحظى مقولة انفتاح النص على قراءاته المتعددة، بنوع من الإجماع من قبل المناهج الحديثة، بصرف النظر عن خصوصية الدلالة، التي يضفيها كل منهج على مفهوم هذا الانفتاح، وعلى ما يثيره من قضايا نظرية متسمة بتشعبها وتفرعها. وبالنظر إلى جمالية وعمق المتاهة التي يمكن أن يستدرجنا إليها الموضوع، فإننا سنقتصر على تناوله من تلك الزاوية التي تبدو هي أيضا منفتحة على الفضول العام، وأعني بها الزاوية المتعلقة بتجربة قراءة النص في مساراته المتتالية والمتحولة، من قبل قارئ مفرد، قد يكون أنا، أو أنت.
ومصدر الأهمية التي نوليها لهذه التجربة، هو قدرتها على وضعنا في قلب تلك العلاقة الشائكة القائمة بين النص وقراءاته. الشيء الذي يسمح لنا باستخلاص بعض العناصر المتميزة بدقتها ووضوحها، التي تظل إلى حد ما محتجبة وغائمة، في حالة اقتصارنا فقط على البقاء ضمن تلك العلاقة التي تؤسسها قراءات متعددة، تنجزها شرائح مختلفة من المهتمين بالنص ذاته، وهي علاقة تتيح للنص إمكانية مضاعفة زئبقيته، وسحرية انفلاته، كي يظل في منأى عن أي تأطير نهائي، نتيجة احتمائه بدوامات التزكيات والتحشيدات المتهاطلة من هنا وهناك. وإذا ما كان هذا الاحتماء مشروعا وموضوعيا بالنسبة لقلة قليلة من النصوص الكبيرة، المؤهلة لاستقطاب قراءاتها عبر الأزمنة والأمكنة، إلا أنه يصبح بالنسبة للنصوص المفتقرة إلى الحد الأدنى من العمق، بمثابة حجاب يحول دون الكشف عن حقيقتها.
غير قليل من النصوص التي استطاعت تحت تأثير شروط غير موضوعية، أن تثير زوابع وتوابع من القراءات، التي تتحول بفعل غزارتها وتناغمها، إلى سلطة حقيقية، تتحكم بشكل مباشر في توجيه القراءة الفردية.
وسيكون من الضروري الإشارة في هذا السياق، إلى غير قليل من النصوص التي استطاعت تحت تأثير شروط غير موضوعية، أن تثير زوابع وتوابع من القراءات، التي تتحول بفعل غزارتها وتناغمها، إلى سلطة حقيقية، تتحكم بشكل مباشر في توجيه القراءة الفردية، التي يتعذر عليها، أن تستقل بخطابها الخاص بها، في خضم ما تتقاذفه الجلبة الاحتفائية من هرج ومرج. علما بأن الغزارة المشار إليها، والمتميزة بخلوها التام من قانون الاختلاف، هي المرادف الطبيعي للإجماع، مهما كان مطبوعا بتنوعه الذي يكتفي في قلب هذه الغزارة ذاتها، بتزكية سلطة الإجماع. وهو واقع يتعذر الطعن في حقيقته، مهما توسلنا له بأشد الذرائع المنتصرة لاستقلالية النص. وتكفي ممارسة نوع من التصفح العارف لمدونات النصوص الكونية الكبيرة، للتأكد من قوة تأثير العوامل الخارجية في ترسيخ نفوذها، وفي تحويلها إلى قبلة حقيقية لا تخطئ وجهتها أغلب القراءات. وهو ما يجعل من هذه النصوص ثقوبا سوداء عملاقة، تبتلع ما عداها، بدعوى امتلاكها لأسرارها الداخلية الخاصة بها.
وعلى الرغم من تسليمنا بحضور نسبة معينة من هذه الأسرار الخفية والجذابة، إلا أننا نعتــــبرها مجرد عامل مساعد، ضمــــن حزمة كبيرة من العوامل الخارجية، التي بوسع القارئ الفطن الاهتداء إلى بعض ملامحها، ســواء ما تمحور منها حول شخصية صاحب النـــص، أو ما تمحور منها حول قناعاته الفكرية، إذ ثمة فرق كبــــير بين شخصية مهووسة بتعميم حضورها على حساب اهتمـــامها بتوصيل شيء آخر ينتـــمي إلى عالم الفكر أو الإبـــداع، وأخرى يتجسد همها المركزي في توصيل منجزها، ولو إلى أضيق دائرة من دوائر القراءة، بدون أن تكون معنية بالإقامة تحت أضوائها أو ظلماتها.
وكما هو معلوم، فإن الإصابة بهوس تعميم الحضور، تؤهل صرعاها للتواجد الشامل، وأحيانا المهيمن، في كل المحافل التي تتردد بين جنباتها أصداء ما، حيث يكون «النص» المفترى عليه، مجرد وسيط بين هذه الذات المهووسة، والمتحلقين حولها. إنه بمعنى ما، الإطار الذي يشرعن حضور صاحبه، ويضفي عليه تلك الهالة الملتبسة، التي هي خليط من الإشفاق والاستغراب والإنكار والحيرة، وكلها مشاعر تساهم بشكل أو بآخر في نسج خيوط علاقة معقدة وملتبسة، تنتهي بتأجيج نوع من الفضول، الذي لا يغمض له جفن إلا إذا تمكن من مواكبة مستجدات هذه النماذج، ولو تعلق الأمر بسرد أخبارها على سبيل التسلية.
وفي جميع الأحوال، فإن «النص» هو المستفيد الأول من هذه الجعجعة، الذي يتحول تدريجيا من كونه إشكالا عصيا على التصنيف، بفعل ما يتخلله من اختلاقات، إلى كونه سلطة، وقد أمسى متقمصا هيئة صاحبه، لكن بمبادرات من الآخرين المسكونين تلقائيا بشبحه. وإذا ما نحن حاولنا، الاستئناس بالعنصر المركزي الفاعل في تحقيق ظاهرة الاستقطاب، المستندة عادة إلى مرجعيتها الأيديولوجية، السيكولوجية، أو السيكوباثولوجية، فإننا سنكتشفه في خاصية الإثارة، التي تنتزع الآخرين من حيادهم، كي يندمجوا طواعية واختيارا في طقوسها، بدون أن تتبادر إلى أذهانهم أدنى فكرة لمد مسافة ممكنة بينهم وبين ملابسات هذا الطقس، الذي يساهم بشكل كبير في تحشيد القراءات حول ما ينتظم فيه من «نصوص”.
يبرز الدور الاستثنائي الذي يمكن أن تقوم به القراءة المنفلتة من ربقة الجوقة، حيث سيكون عليها وبطريقتها الخاصة، أن تعيد ترتيب مكونات الطقس.
هنا تحديدا، يبرز الدور الاستثنائي الذي يمكن أن تقوم به القراءة المنفلتة من ربقة الجوقة، حيث سيكون عليها وبطريقتها الخاصة، أن تعيد ترتيب مكونات الطقس. بمعنى أن تريق قليلا من ماء التأمل على لهب الإثارة، كي تكشف النصوص المحتمية بها عن ملامحها الحقيقية، وقد تخلصت تماما من هالات القراءات التي دأبت على إضاءة محياها ليل نهار، إلى درجة الإحراق.
إننا نلمح هنا إلى تجربة جد استثنائية، تتعلق بتلك المنعطفات التي يحدث أن تجدد فيها قراءاتك الشخصية والذاتية بنصوص سبق لها أن قضت ردحا غير قصير من الزمن، في رحاب احتفاءات لا مشروطة، ومشمولة بمواكب التكريم والتعظيم، كي تكتشف وبغير قليل من الدهشة، أنك الآن وأنت بصدد تجديد لقائك بها لسبب أو لآخر، أمام كائنات تدعو ملامحها الذاوية إلى الإشفاق. لقد تبخرت نظارة الحروف، وتيبست أنساغها، ولم يعد ثمة في حناجرها من نشيد يطرب لسماعه الأحياء أو الأموات. كما أن الأصداء والأصوات التي كانت تملأ جنباتها، نجت بأرواحها من وهم الإقامة داخل عرصات، ليست هي الواقع عدا خرائب مهجورة، ومأهولة بالنعيق.
قد يبدو هذا الحكم قاسيا ومبالغا فيه إلى حد ما، لكننا وفي حالة مراجعتنا لأسرار ذلك الانقلاب الكبير، الذي تحدثه القراءة داخل طقس الاحتفاءات اللامشروطة، وبعد تحررها التام من سلطة الإجماع، فإن هذا الحكم سيكون جد مبرر وجد موضوعي، باعتبار أن البهاء السابق الذي كان ملازما للنص لا يلبث أن يصبح تحت ضوء القراءة المحايدة أثرا بعد عين. هكذا وبالمنظور ذاته، ينهار الكثير من الصروح التي لم يشفع لها مظهرها المرمري الزائف طبعا، في مقاومة أول هبة من رياح الشك الموضوعي والمساءلة المضادة. وهي المنهجية نفسها التي ستمكن النصوص المنسية والمهجورة، والمطمئنة لاغترابها العالي، من الفرح بدنو تلك الخطى الخفيفة والعاشقة، التي تعودت على سماع هسيس إيقاعها من حين لآخر. وأعني بها خطى قراءة لا تمتثل لغير طقسها الشخصي، ولغير انتشاءاتها الجوانية. إنها باختصار شديد، القراءة الشخصية ذات العمق النقدي، الذي تتجدد في مسالكها حياة النصوص، أو موتها.
٭ شاعر وكاتب من المغرب
الدوري الحقيقي للجزائريين هو الدوري السياسي بين الشعب ومنظومة الحكم التي تدور الآن في الشارع الجزائري والذي أطلق عليه حراك الكرامة وقد كان الدفع لذلك من الملاعب التي طالما ردد جمهورها شعارات تُرجمت على أرض الواقع من خلال مسيرات سلمية حيرت منظومة الحُكم وفرنسا.