نعرف كلنا أن العلامة اللغوية عند اللسانيين القائلين بنظرية العلامة، كيان بوجهين: دال ومدلول يحيلان على واقع غير لغوي هو المرجع أو الشيء المؤدى. والمرجع من حيث هو موضوع الكلام غائب، لكنه حاضر في الصورة المفهومية التي يستدعيها.
وكثيرا ما تكون هذه الصورة من الدقة والخفاء، كلما تعلق الأمر بمدلولات مجردة تستدعي مفهومات عديدة، أو تنوعا كبيرا في المعاني، بحيث يصعب أن نأخذ بالمرجع خارج سياقاته المكانية والزمانية والسياسية والاجتماعية والفلسفية… على نحو ما نلاحظ اليوم في شتى المواقف من حركة «طالبان»؛ والكلمة من أصل عربي، لكنها صيغة جمع في لغة «البشتو». ومن نافل القول التذكير بأن العلامة تتمثل الواقع، لكن دون أن تحل محله، حتى ليمكنَ أن نعلق بها بعدا كنائيا.
فالعلامة هي الشيء الذي يقوم مقام شيء مختلف. والحق أن العلاقة بين العلامة والواقع أفضت إلى سجالات كثيرة ولا تزال، فهل نحن نتدبر الواقع الذي ندركه على أساس من تفصيل اللغة إلى علامات منفصلة؟ أم أن طريقتنا في إدراك الواقع هي التي تلزم اللغة أن تترتب بطريقة وليس بأخرى؟ فاللغة من حيث هي نظام من العلامات أو الرموز، تسهم في وصف الواقع. والسؤال: هل هذا الوصف حيادي نسبة إلى الواقع؟ بل ألا تؤثر اللغة في إدراكنا هذا الواقع نفسه؟ بل ألا يمكن أن يكون إدراكنا الواقع هو الذي يتدبر اللغة ويبنيها وينظمها في هيئة ما؟
بل إن هذه الأسئلة لتتشعب بنا إلى أسئلة أخرى شائكة يتولد بعضها من بعض في تأصل وتفرع: فهل العلامة فعل إرادي؟ وهل المفاهيم التي نحملها هي التي توجد الأشياء، على نحو ما يزعم المثاليون؟ أم هل أن وجود الأشياء هو الذي يبتعث فينا وجود المفاهيم، على نحو ما يزعم التجريبيون؟
نتعلم من الدرس اللساني أن العلامة تُستخدم لإبلاغ معلومة، ولقول شيء أو الإشارة إليه، شيء يعرفه أحد ما ويريد أن يتعرفه الآخرون أيضا. وهذا وصف لنفعية العلامة، يستعيد فكرة الفعل الإرادي الذي يؤديه مرسل ما متوجه إلى متقبل ما. وتتوضح هذه «الإرادية» من خلال التمييز بين العلامة المصطنعة والعلامة الطبيعية. فالأولى تصدر عن الإنسان على قاعدة مواثيق خاصة مضبوطة بقصد إبلاغ أحد ما شيئا ما. والثانية مصدرها طبيعي فهي لا تتعلق بأي إرادة ولا بأي قصد. ونحن نتناولها من حيث هي إشارة أو علامة.
ثمة إذن علامة إرادية اصطلاحية تواصلية، وأخرى غير إرادية لكنها تعبيرية، إذ توحي بحالة من حالات الفكر أو تبِين عنها. وهي من ثمة تند عن حد العلامة الذي تقدم ذكره. وربما أحاط بها تعريف كهذا «فشيء ما ليس علامة إلا لكونه مؤولا من حيث هو علامة على شيء ما بواسطة مؤول». وقد يدل هذا التعريف على «إرادية» ما أو «اختيار» ما، ما دامت هذه العلامة منوطة بمُؤول يؤديها ويشرحها. على أنها «إرادية» تغير مواضعها، فالرسالة ليست وقفا على توصيل المرسل، وإنما هي تتوسع وتتمدد وتتحدد نسبة إلى الذي يعيد بناءها أو يتناولها ثانية. فإذا كان التخاطب يستند إلى إرادات متلازمة تكاملية، في إرسال معلومة واستقبالها، فإن وفرة العلامات المستقبلة المدركة بوساطة المرسل إليه (المؤول) يمكن أن تختلف عميقا عن تلك التي صدرت إراديا.
والنظام اللغوي لا يمكن إلا أن يحوي تحليلا للعالم الخارجي يخصه، لكنه يختلف عن نظام لغات أخرى مثلما يختلف من حقبة إلى أخرى، في حيز اللغة الواحدة، و«طالبان» اليوم قد لا تكون «طالبان» الأمس، بل الأرجح لن تكون. وقد نكون في الصميم من هذا «الوضع» المستجد، إذا نحن سوغنا المقترح الذي يدعو إلى طرح الاصطلاحات (دال ومدلول ومرجع) واستخدام «الاسم» و« المعنى» و«الشيء» بدلها. ذلك إنه إذا كان ثمة رابط مباشر بين الاسم والمعنى ـ ما دام الواحد منهما يستدعي الآخر، كما هو الشأن بين المعنى والشيء؛ إذ الصورة التي نتصورها عن الشيء رسم مشتق من التجارب الماضية حيث أمكن ان نرى هذا الشيء، فليس ثمة من رابط بين الاسم والشيء؛ لأن الاسم « يستدعي فكرة الشيء لا الشيء» أو هو يستدعي صورته، أو الاثنين معا. وعليه فإن المعنى وهو في هذا المستوى تسمية أخرى للمدلول؛ مناوبة بين الاسم والشيء. وعليه يمكن أن نحده من حيث هو الصورة، أو الفكرة التي يقدحها الدال (الاسم).
ثمة إذن علامة إرادية اصطلاحية تواصلية، وأخرى غير إرادية لكنها تعبيرية، إذ توحي بحالة من حالات الفكر أو تبِين عنها. وهي من ثمة تند عن حد العلامة الذي تقدم ذكره. وربما أحاط بها تعريف كهذا «فشيء ما ليس علامة إلا لكونه مؤولا من حيث هو علامة على شيء ما بواسطة مؤول».
وفي سياق شبيه بهذا فإن ما يدور في خلد المتكلم هو الفحوى، على حين أن العبارة فيه هي الأداء الصوتي أو الخطي. وهما إذا تدبرنا الأمر بروية، ليسا سوى العالم الداخلي والعالم الخارجي، كل على حدة. وما الذي يحول بيننا وبين تصنيف اللغة من حيث هي محصول علاقة بين» العالم الداخلي» (مستوى المحتويات) و«العالم الخارجي» ( مستوى العبارة)؟
قد تتكامل هذه الفرضيات والمصادرات أكثر مما تتعارض. وما يعنينا منهما أن تعريف العلامة محدود يعتريه النقص، إذ هو يخص العلامة التي نجدها في المعجم (وهو هنا السياسي بالنسبة إلى «طالبان») وربما لا نجدها في سواه. ولا نخاله يسعفنا كثيرا في فهم متغيرات هذه العلامة بعد أن عادت هذه الحركة إلى الحكم، أو هي «غيرت» خطابها. ثمة «دال» لكن عجز القارئ عن ربطه بمدلول، يحول بينه وبين إدراك المعنى بالدقة التي ينشدها. ومن السائغ أن نقول استئناسا بما تقدم، إنه إذا كان الاسم يستدعي المعنى والمعنى يستدعي الاسم، فإن غياب المدلول وهو غياب المعنى، من شأنه أن يعوق الفهم؛ لأن الفهم مرتبط في جانب منه بالعلاقة القائمة بيين الدال والمدلول. لكن أي علاقة؟
ما انفك اللسانيون يشددون على اعتباطية العلامة، فالكلمة لا تنضوي على نظام الأشياء الطبيعي، لتكون دال هذا الشيء أو ذاك. والمقصود بقولهم «اعتباطي» أن الدال محدد بصورة تواضعية اصطلاحية، أو هي عارضة طارئة، من غير أن يسوق ذلك إلى القول بحرية المتكلم في اختيار الدوال، أو ترك المبادرة له في استبدالها. فنحن نلج بالعلامة وفيها عالما من المواثيق التي تضفي على المعنى مزية الإبلاغ، وهو إبلاغ يتحصل باستخدام القوانين التي نجريهاعلى قراءة العلامة أو سماعها. ويفترض في العلامة، لكي تنهض بوظيفة الإبلاغ المنوطة بها، أمران: أولهما أن يستدعي الدال ذات المدلول (المعنى) في ذهن كل من المتكلم والمستمع، أو المرسل والمرسل إليه، فإن لم يكن المعنى نفسه فالأقرب إليه. ويحسن أن\ نتنبه إلى أن كل شيء يجري في الاستعمال اللغوي العادي، كما لو أن العلامة التي ما انفك اللسانيون يشددون على اعتباطيتها، هي الشيء نفسه. ومما يؤكد هذا اللبس الحاصل بين الكلمات والأشياء، تحاشي المتكلم التصريح ببعض الأسماء، كما لو أنها تخل بعرف أو تسف بمعتقد. وهذا مظهر من «المضمر الإرادي» الذي يفترض أن يكون له موقعه في الكلام على «طالبان» مثلا. وثانيهما أن تجري الكلمة في سياق تمتح منه مادتها. وفي حيز الشرط الأول يتدخل مفهوم القانون، إذ يمتنع من دونه الجمع بين الشيء وبديله (العلامة). فـ»نظام العلامة يتوقف على وجود قانون». وفي غيابه يبطل تواطؤ المتكلمين، وتنعدم القدرة على الفهم والإدراك. على أن القانون يمكن أن يكون مقدرا، فيفضي بالمتقبل إلى تواصل أو تعامل مع الكلام مختلف.
أما الشرط الثاني، وهو الذي يحكم حقيقة الغبلاغ، فنلامس فيه مسألة المعنى في ذاته، ونقف على قيمته الباطنة، أي القيمة التي يستمدها الشيء من طبيعته الخاصة وليس من حيث هو إشارة إلى شيء آخر. وهذه المسألة، على ما نبينه من شتى المواقف غالبا ما تتخذ بعدين أو معجمين، دينيا وسياسيا. والمعجم «يؤمن» معنى الكلمة «طالبان» و«يحفظ» لها نوعا من الثبات الدلالي: طالب العلوم الدينية وطالب الحكم باسم الشريعة. وهو يضمن في الآن ذاته تناسبا ما في استعمال العبارة، وحدا من الترابط المنطقي في التبادل اللغوي. والحق أن هذا الرأي يحتاج فحصا دقيقا، إذ غالبا ما نلتقي النظرية التي تنقضه: فكلمة ما ليس لها حق من معنى ما لم ينتظمها سياق. وفضلا عن ذلك فإن نظام الترتيب المعتمد في المعجم بما فيه السياسي؛ يستند إلى إجراء انتقائي كثيرا ما يجرد الكلمة من خصائصها الفذة ومزاياها الفريدة، ويحصر معناها ويقيده في حدود العرف الشائع. وكلما أغرقنا في التجريد تصرمت الروابط بالواقع، واضمحل المدلول والشيء وتعطل الفهم، على نحو ما يبينه الآخذون بـ«الدلائلية العامة» من الذين يرون في هذه السيرورة علة من علل صعوبة التواصل.
كاتب وشاعر تونسي
فيما يتعلق بالعبارة الرئيسية في النص:
«فشيء ما ليس علامة إلا لكونه مؤولا من حيث هو علامة على شيء ما بواسطة مؤول».
كم سيكون هذا الكلام جميلا حقا فيما لو تم استبدال المصطلح المترجم بالمصطلح المنحوت اشتقاقيا ولسانيا «دالول»، كما أوصى معلِّمنا الفذ حي يقظان، كما يلي:
«فشيء ما ليس دالولا إلا لكونه مؤولا من حيث هو دالولٌ على شيء ما بواسطة مؤول» !!!؟؟
يا د منصف الوهايبي، مستشارة ألمانيا (ميركل)، الآن أشاهدها تعتذر عن (التقصير) إلى نواب مجلس نواب الشعب الألماني،
التي أدّت إلى ما ظهر من (فساد) عملية الهروب لأمريكا والناتو، من أفغانستان، أمام تقدم (طالبان)، في طريق السيطرة على إدارة وحوكمة الدولة،
هو أول ردة فعل على عنوان (هامش لساني: «طالبان» علامة ام واقع) لمقالك نشرته جريدة القدس العربي (البريطانية)، والأهم هو لماذا، وما دليلي على ذلك؟!
هناك من شدّ الرحال إلى (أفغانستان) من أجل (الجهاد)، وهناك من شدّ الرحال إلى (لبنان) من أجل (التعليم) والزواج، من لبنانية مسيحية (رولا سعادة)، والتخصّص في (إصلاح) الدول الفاشلة، مثل (ا.د. أشرف غني)،
الإشكالية، ساعة الجد والحاجة إلى إصلاح الفساد، هرب الموظف (الرئيس) من تونس (زين العابدين بن علي) مع زوجته (الطرابلسية)، كما هرب الموظف (الرئيس) من أفغانستان (أ.د. أشرف غني) مع زوجته (اللبنانية/المسيحية)،
فلذلك لماذا نجح (طلبة) لغة القرآن وإسلام الشهادتين في أفغانستان، بينما هرب (طلبة) لغة دولة الحداثة (الديمقراطية)، في دول نظام الأمم المتحدة،
يوم 15/7/2016 في (تركيا)، في يوم 14/6/2014 في (العراق وسوريا) في أميركا يوم (11/9/2001) في الكويت يوم (2/8/1990)، ما الفرق بين المنهاجين، إذن؟!??
??????
جزيل الشكر استاذة وداد. ملاحظة رشيقة، والنحت “دالول” طريف حقا
تشكر خاص للأخت الدكتورة وداد الصفدي على ذكر شيء من إبداع الأخ حي يقظان، كمثل الاصطلاح اللافت [دالول] Sign إلى جانب [الدال] Signifier و[المدلول] Signified. وإليك بعضا مما جاء على زنة [فاعول] في القرآن الكريم:
[الياقوت]: “كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ” (الرحمن:58)
[الماعون]: “وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ” (الماعون:7)
[التابوت]: “أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ” (البقرة:248)
[الناقور]: “فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ” (المدثر:8)
[الكافور]: “إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا” (الإنسان:5)
وكما تعرفين، أن وزن “فاعول” يكثر في أسماء الآلة والأعلام الأعجمية، ويأتي أيضا للمبالغة، نحو:
[حاسوب]، [شاقول]، [حاجور]، [حادور]، [ساجور]، [طامور]، [جامور]، [ناظور]، [ناطور]، [صاقور]، [عافور]، [فاثور]، [جاذور]، [خافور]، [عاقور]، [خابور]، [قارور]، [فاخور]، [ناجور]، [ناعور]، [ساهور] [ساعور]، [باقور]، [سابور]، [صابور]، [عاذور]، [قاشور]، [تامور]، [حابور]، [ناصور]، [ناسور]، إلخ.
ويقول ابن يعيش: “[فاعُول] يكون اسمًا وصفة، فالاسم، نحو: [عاقُول]، [نامُوسٍ]، إلخ. والصفة، نحو: [حاطُومٌ]، [جارُوف]، إلخ (عن: شرح المفصل). (يتبع)…
(تابع لما سبق)…
وقد جمع الشنقيطي ما جاء على وزن [فاعول] قصيدة سينية، منها هذه الأبيات:
خُذْ ما أتى وزن فاعول وآخره / سين فمنه لداء الظفر داحُوسُ
وقيل للنار مأموس وموضها / أيضاً كذاك وبعضُ الطيرِ طاووسُ
وللنصارى بأوقات الصلاة يرى / ضربٌ لعودٍ وذاك العودُ ناقوسُ
ومظلم الليل داموسٌ وصاحبُ سِـ / ـرِّ الشرِّ والخيرِ جاسُوسٌ وحاسوسُ
وللأخير بناموسٍ مرادفة / وللعواقلِ في الحيَّاتِ فاعُوسُ
وذو النمامةِ فانوسٌ وفي بقَرٍ / نَوْعٌ يقالُ له بمصرَ جاموسُ
ووزنُ فاعلةٍ من دَبَّ متِسمٌ / بها اسمُها عندهمْ فاحفظْهُ عاطوسُ
ولا يُنسى أن آلة الحلم الحوشية والموحشة هي [الكابوس]، إلخ (عن السماع والقياس).