ثمينة وعميقة هي الدلالات التي تختزنها سيرة الروائي والشاعر والمسرحي الألماني هانز يوهست 1890 – 1978 موحية، حين توضع في سياقها الإنساني العادي البعيد عن التأويل والمجاز، فلا مجازات تستدعي التأويل في سيرة المذكور، ولا مساحات شائكة تنشد التفسير فيها، هي سيرة واضحة ومعلنة، بل مكشوفة تماماً.
مسرحي شاب يلفت الأنظار مبكراً، إثر ظهور مسرحياته الأولى: «ساعة الموتى 1914». و»الأجنبي 1916»، ثم يخطفها دهشة وإعجاباً عبر روايته البكر: «البداية» 1917. يليها العديد من الأعمال الأدبية الأخرى الناجحة، وصولاً إلى صدور مجموعته الشعرية الثانية «أغاني الشغف» 1924، حيث الترحيب به كشاعر لن يقل عما لاقاه كمسرحي وروائي، فهانز يوهست هو المتنوع، عديد المواهب، والمتنقل بلا أثقال أو حواجز بين الشعر والمسرح والرواية، هو يبدع هناك ويبدع هنا، ولا يكف عن التجوال الجميل بين تلك الأنواع ولا يرى «الجدران الافتراضية» التي يراها النقاد بينها، بل يواصل، إلى حين وفاته، تأكيد القدرة على إسقاط تلك الجدران وتقليص المسافة الفاصلة بين الأجناس الأدبية جميعها، فهو الروائي الذي يكتب الشعر، والشاعر الذي يكتب الرواية، والمسرحي المفتون بلغة الشعر وفنون الرواية، والمبدع، بين هذا وذاك، حين يكتب.
هانز يوهست هو إضافة نوعية لحقول الكتابة المذكورة أعلاه، كما تم وصف منجزه الإبداعي نقدياً وشعبياً. وهو الأبن الشرعي لحقبة ألمانية أدبية باذخة آنذاك، كما تشي سيرته المبكرة بذلك، ولكنه المبدع الذي غادر الحقل الأخضر إلى صحراء قاحلة وقاسية، والابن الذي ضلّ دربه وتاه في طريق سديمية سوف تأخذه بعيداً عن المعنى الأصيل الذي تجيء الكتابة من وحيه عادة، الكتابة بوصفها مرآة عملاقة تعكس الوجع الإنساني وتمدح الأضواء التي تسلط عليه، أو تحاول، في أعلى درجات أحلامها، وضع حد نهائي له. ولا تتورط في خطيئة تبرير أسبابه، أو البحث عن مبررات لمن يعملون على خلق تلك الأسباب وتعميم تجلياتها اللئيمة.
لا يمكننا الوصول لكلاوس مان للأسف، ولكن يمكننا سجن والده، السيد توماس مان لفترة معينة، كرهينة نسكت بها ابنه. اعتقد بأن هواء الخريف في داخاو لن يضره أبداً.
في مطلع عام 1933، وقبل أيام قليلة على إمساك أدولف هتلر بزمام السلطة في ألمانيا، مستشاراً للرايخ. نشر يوهست مسرحيته الأكثر شهرة «شلاغتر»، وهي دراما «وطنية» تتغنى ببطولات المحارب الألماني «نازي العقيدة»، البيرت ليو شلاغتر، الذي حكمت عليه محكمة عسكرية فرنسية بالإعدام عقاباً له على قيامه بعمليات تخريبية داخل الأراضي الفرنسية! ولا صدفة هنا بالطبع، لا في توقيت النشر، حيث أجواء الاحتفاء بالبطل المخلص، هتلر.
ولا في اختيار شخصية شلاغتر تحديداً «جندي الرايخ الأول»، بحسب يوهست. ولا صدفة، أيضاً وأيضاً، في اختيار العشرين من أبريل/نيسان من تلك السنة موعداً لعرض المسرحية للمرة الأولى، في عيد ميلاد القائد الجديد، أدولف هتــــلر، فهناك بالضـــبط، عبر المسرحية وثيمتها ومواعيد نشرها وعرضها، كان يوهست يصل ذروة مسيرته الفكرية التي بدأت منذ سنوات سابقة بعديد المقالات والسجالات والآراء اليمينية المعادية للديمقراطية وجمهورية فايمار وللأفكــــار التنويــرية التي انتشرت بقوة حينها بين الكتاب الألمان، وكان المسرح تحديداً مجالا واسعاً لتقديمها للجمهور والدعوة إليها، وهو الأمر الذي سيضع يوهست مبكراً في سجالات عنيفة مع زملائه ويضعه على الدوام في خانة «الكاتب اليميني والفاشي». وهي صفة أطلقها بيرتولت بريخت في مقالة صحافية عليه، وكانت صائبة.
مع ظهور شلاغتر وانتشار أماكن عرضها ولا حدود الترحاب النازي بها، داخل الحزب الحاكم أولا، وهو عضو فاعل فيه، كان نجم هويست يصعد إلى السماء في البلاد، وكانت مكانته تتأكد أكثر وأكثر في أروقة السلطة وبين كبار قادتها، بما هو «كاتب نازي أصيل وعقائدي»، والوصف ليوسف غوبلز، وزير الدعاية. وهي مكانة ستحمله بسرعة إلى رئاسة الاتحاد العام للكتاب الألمان، كما رئاسة تحرير العديد من الصحف والإشراف المباشرعلى ما لا يعد من المشاريع الثقافية، نازية الأهداف والرؤى. فهو الابن المدلل والفعلي لحقبة دموية لن يطول الوقت ويكتشف الألمان والعالم من خلفهم حقيقتها، وحقيقة أنها الحقبة الأكثر عداءً تجاه الثقافة ذاتها.. الثقافة التي جاء هانز هويست من حقولها الشاسعة ثم شارك بوعي في حفلة إطلاق النيران عليها.. إطلاق النار على قدميه، هو الشاعر والمسرحي والروائي الذي وضع مثل هذه العبارة اللعينة والقاتلة على لسان بطله شلاغتر، في المشهد الأول من المسرحية: «حين أسمع كلمة ثقافة أرفع صمام الأمان عن مسدسي»، وهي عبارة شهيرة ومنسوبة بالخطأ لهيرمان غيرنيك، أو غوبلز، ولكن الأخير سيعمل بوحيها فعلاً!
سيرة كاتب مبدع ضلّ الطريق وابتعد عن الينابيع العظيمة إلتي تسقي حقول الإبداع عموماً، بل تحول إلى عدو معلن لتلك الينابيع والحقول ولتلك الأسماء اللافتة التي تعمل في ظلها، هو الذي سيبعث برسالة إلى صديقه هاينريش ميلر، وزير الاستخبارات وقائد الغستابو، في أكتوبر/تشرين الأول 1933. يطالبه عبرها باعتقال الروائي توماس مان، عقاباً له على كتابات ابنه، كلاوس مان، ضد السياسات النازية، وكان كلاوس يكتب ويعيش خارج ألمانيا: «لا يمكننا الوصول لكلاوس مان للأسف، ولكن يمكننا سجن والده، السيد توماس مان لفترة معينة، كرهينة نسكت بها ابنه. اعتقد بأن هواء الخريف في داخاو لن يضره أبداً».
وداخاو هو مركز اعتقال نازي شهير ولعين قريب من ميونيخ، ولكن، من سوء حظ يوهست، كان توماس مان قد غادر ألمانيا خفية إلى سويسرا، قبل وصول رسالته إلى ميلر. إلى ذلك الحد الشيطاني وصل الانحطاط الأخلاقي والإنساني بكاتب السلطة، حد المطالبة بقتل زميله المعروف، فمراكز الاعتقال تلك هي الأمكنة المحببة للقتل في العهد الاسود ذاك! ولا غرابة هنا بالطبع، لا في طلب القتل ولا في مستويات الانحطاط، فالكاتب الذي يرهن إبداعه بمخالب سلطة دموية ويتحول إلى عراب لها ومروج لأسبابها، لا يملك في نهاية المطاف غير الانصياع الكلي لمنطقها.. لا يملك غير لسانها هي وأدواتها الشريرة: الاعتقال والقتل، وضرب المختلف معها، ولو حتى قليلاً.
وحيداً يائساً ومهملاً سوف يرحل هانزهويست، في مركز لكبار السن عام 1978، فقد رفعته ألمانيا ما بعد الحرب الثانية من الذاكرة الإبداعية الجمعية ووضعته حيث عليه أن يكون، في كهف مظلم واحد مع الحزب النازي، مع القتلة وأعداء الثقافة والحرية والحب، فهو، في تلك الذاكرة الجمعية الآن: محض كاتب سابق، بديع البدايات، باع روحه وإبداعه للقتلة ولم يبق منه سوى تلك العبارة المدمرة واللعينة التي تحولت إلى وصية ثمينة ومتحققة عند جميع النظم المستبدة: «حين أسمع كلمة ثقافة أرفع صمام الأمان عن مسدسي». ويا لها من وصية ناجعة وفاعلة في جميع المطارح المظلمة، ويا له من شاعر وروائي ومسرحي يوصي بمثلها!
٭ كاتب فلسطيني
مقال جميل وموضوعي
هذا هوو نائل بلعاوي، بلغته النابضة بالحياة مهما كان الموضوع الذي كتب عنه، فأن تكتب عن مبدع باع نفسه للشيطان، ويقدمه بأسلوبه الشيق، معادلة لا يحققها كثيرا. لك تحيات بجمال كتابتك وشكر كبير.
مأمون السعد أكتوبر 17, 2018 at 6:34 م
هذا هو نائل بلعاوي، بلغته النابضة بالحياة مهما كان الموضوع الذي يكتب عنه، فأن كتب عن مبدع باع نفسه للشيطان، وقدمه بأسلوبه الشيق، فإنه يحقق معادلة لا يحققها كثيرا غيره. لك تحيات بجمال كتابتك وشكرا كبيرا.