هبّات شعبية، شبابية بوجه خاص، «عا مدّ النظر» (لو استعرنا كلمات عبد الجليل وهبه التي غنّاها وديع الصافي)، من السودان إلى إيران ومنها إلى الصين، وقد عصفت في الماضي القريب في بلدان شتّى من أمريكا الشمالية واللاتينية وأوروبا وأفريقيا وآسيا. وهي هبّات تندرج في طور تاريخي يرى الباحثون في زمننا المعاصر أنه طورٌ دفعته بقوة الانتفاضة العربية الكبرى التي انفجرت في عام 2011. والحال أن السنين المتعاقبة منذ ذلك «الربيع العربي» لا تني تُظهر أن الطور الثوري الذي دشّنه بعيدٌ عن الانتهاء، ذلك أن الهبّات المتتالية تثبت أن الحرّية والكرامة بمعنييهما الفردي والجماعي ليستا من القيم «الغربية» كما يدّعي أعداء الحرّية والكرامة، زبانية أنظمة الاستبداد بمختلف أنماطها، بل هما قيمتان إنسانيتان بامتياز تخصّان الجنس البشري بكافة أنواعه وألوانه.
فإن القاسم المشترك بين أكبر تظاهرات شهدتها المنطقة العربية، تلك المتعاقبة منذ أن هبّ شعب تونس إثر مقتل محمد البوعزيزي وشعب مصر إثر مقتل خالد سعيد، وقد شهدت حتى الآن موجتين كبريين في عامي 2011 و2019، وأعظم تظاهرات شهدها تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، تلك التي اندلعت قبل سنتين إثر مقتل جورج فلويد، وقد بلغ عدد المشاركين فيها حسب صحيفة «نيويورك تايمز» 35 مليوناً، والتظاهرات التي لا تزال تعصف بالساحة الإيرانية منذ مقتل مهسا أميني قبل شهرين ونصف، وتلك التي تخضّ الصين اليوم، وتخضّ بالتالي العالم بأسره، منذ مقتل عشرة أشخاص في حريق شبّ يوم الخميس الماضي في مبنى سكني في مدينة أورومتشي، عاصمة إقليم سنجان، إن الذي يجمع كافة هذه التظاهرات إنما هو التوق إلى الحرية والكرامة.
سوف تتحطّم كافة الجدران لا مُحال إذ إنه ميل التاريخ الطبيعي، والتاريخ الحديث مليء بحالات الأنظمة الاستبدادية التي انهارت بعد عقود اكّد خلالها الكثيرون أنها أنظمة راسخة إلى الأبد
فما أراده شعب تونس وشعب مصر وسائر شعوب المنطقة العربية، لاسيما الشعب الليبي والشعب السوري اللذان ذاقا الأمرّين من نظامين عائليين تربّعا على سدّة الحكم في البلدين خلال عقود طويلة، ولا زال أحدهما يطأ بثقله الذي لا يُطاق على رقاب غالبية السوريين بدعم من نظامي الاستبداد الإيراني والروسي على غرار وطأة جزمة الشرطي على رقبة جورج فلويد، وما أراده المتظاهرون والمتظاهرات في الولايات المتحدة المحتجّون على تاريخ طويل من الاضطهاد العنصري، وما أراده المتظاهرات والمتظاهرون في إيران بالانتفاض ضد ما يزيد عن أربعين عاماً من الاستبداد باسم الدين، وهو استبداد يطال النساء أولاً ولا يوفّر الرجال، وما أراده المتظاهرون والمتظاهرات في الصين في وجه اشتداد الرقابة على حيواتهم، وقد بلغت مع جائحة الكوفيد حدّاً لا يُطاق، أشبه ما يكون بالكابوس الذي تخيّله الكاتب البريطاني جورج أورويل في روايته الشهيرة «1984»، ما أراده جميع هؤلاء والملايين غيرهم الذين هبّوا خلال السنوات الأخيرة، منذ العقد الثاني من القرن الراهن على الأخص، يتلخّص حقاً أو يكاد بتعبيري الحرية والكرامة.
إنها الحرّية التي تنجم عن فتح باب القفص، بل وتحطيم القفص، وحرّية التعبير السياسي والثقافي بكافة أشكال التعبير، وحرّية ارتداء الملبس الذي يروق لك ولمعتقداتك، وهي كرامة الإنسان مهما كان لون بشرته، ولاسيما الإنسان ذي البشرة السوداء، ومهما كان جنسه البيولوجي، ذكراً أكان أم أنثى، وهواه الجنسي. والحرية والكرامة قيمتان نفيستان نادرتان جداً في منطقتنا، إلى حدّ أن بعض الناس حسبهما مستحيلتين علينا، بل وظنّوهما حصراً على الغربيين، وكأن الإنسان في «الغرب» وُلد حرّاً كريماً منذ فجر التاريخ بينما الحقيقة هي أن التحرّر المجتمعي نزعة رافقت انتقال «العمران الحضاري» (في تسمية ابن خلدون) إلى العصر الصناعي الحديث. فليس التحرّر سمة من سمات «الحضارة الغربية» كما يروق لأعداء التحرّر تصويره، بل سمة من سمات الحضارة العصرية، ومن يعارض هذا التحرّر ليس مناهضاً للغرب بل هو مناهض للحداثة، ليس إلا.
هبّات «عا مدّ النظر ما بينشبع منها نظر»، وسوف تتواصل مهما أصابها من نكسات وهزائم، مثل أمواج البحر التي تتتالى في لطم جدار صخري إلى أن يتفتّت، كما سبق أن شبّهناها. وسوف تتحطّم كافة الجدران لا مُحال إذ إنه ميل التاريخ الطبيعي، والتاريخ الحديث مليء بحالات الأنظمة الاستبدادية التي انهارت بعد عقود أكّد خلالها الكثيرون أنها أنظمة راسخة إلى الأبد.
كاتب وأكاديمي من لبنان