كي لا يتهمنا أحد بالتجني أو المبالغة أو الافتراء أو الفبركة، تعالوا نذهب فوراً إلى مقالة أشهر كاتب أمريكي (يهودي) في أشهر وأهم صحيفة أمريكية، توماس فريدمان في «نيويورك تايمز» فهو الذي قال بالحرف الواحد إن إسرائيل تطبق اليوم فنون التدمير والسحق والحرق الممنهج التي أرساها حافظ الأسد ثم نقلها لنظامه من بعده، مضيفا أن الإسرائيليين يقومون اليوم بتطبيق ما أسماه «قواعد حماة» وهو مصطلح يزعم فريدمان أنه نحته قبل سنين لوصف الاستراتيجية التي استخدمها حافظ الأسد، عندما حاول معارضوه الإطاحة بنظامه. فقد دكّ الأسد الأحياء المعارضة في مدينة حماة براً وجواً، ولم يسمح لأحد بالخروج منها، ثم جلب الجرافات لتسويتها بالتراب وجعلها مثل مواقف السيارات، وقتل أكثر من خمسين ألف شخص من السوريين في العملية.
ويقول الكاتب إنه مشى فوق أنقاض حماة بعد أسابيع، وأخبره زعيم عربي كيف هزّ الأسد كتفيه عندما سُئل عن القتلى، قائلاً باختصار: «ناس بتعيش وناس بتموت». ولا ننسى طبعاً ما قاله معاون وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق إن إسرائيل لا تفعل اليوم أكثر مما فعله بشار الأسد بالسوريين، فكما هجر بشار ملايين السوريين إلى تركيا، من حق إسرائيل أن تهجر الغزاويين إلى مصر. وكما استخدم نظام الأسد الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء لابتزاز السوريين وتركيعهم، من حقنا أن نبتز الغزاويين بالماء والكهرباء لتركيعهم.
تصوروا أن النظام السوري أصبح قدوة ومرجعية في فن الهمجية والوحشية والنذالة والسفالة حتى للإسرائيليين. وكم أخطأ الكثيرون عندما كانوا يعتقدون أن الطواغيت العرب يتعلمون من ربيبتهم إسرائيل، فاكتشفنا أن العكس هو الصحيح، فهي اليوم تحاول تطبيق استراتيجيات الجنرالات العرب الذين مارسوا أبشع وأحقر أنواع التدمير والتعذيب والتهجير والتنكيل الممنهج ليس بأعدائهم (لا سمح الله) بل بشعوبهم، لهذا يتفاخر الإسرائيليون اليوم بأنهم حتى لو طبقوا أساليب حافظ وبشار الإجرامية، إلا أنهم يطبقونها ضد أعدائهم، وليس ضد شعبهم. ولا أدري لماذا ذكرنا توماس فريدمان بخطة حافظ الأسد في مدينة حماة عام ألف وتسعمائة واثنين وثمانين، وتجاهل ما فعله بشار ابن حافظ ببقية المدن السورية منذ عام ألفين واثني عشر وحتى هذه اللحظة، وما فعلته إيران وميليشياتها بالمدن السنية في العراق، فقد تفوق بشار على أبيه بمراحل.
إسرائيل تطبق اليوم فنون التدمير والسحق والحرق الممنهج التي أرساها حافظ الأسد ثم نقلها لنظامه من بعده، مضيفا أن الإسرائيليين يقومون اليوم بتطبيق ما أسماه «قواعد حماة»
معاذ الله أن نقلل من وحشية العمليات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في غزة وغيرها، لكن تعالوا اليوم نقارن العدوان الإسرائيلي على غزة بما فعله النظام السوري وشركاؤه بالسوريين وحتى بالفلسطينيين داخل دمشق ذاتها، فمشهد المهجرين الفلسطينيين من مخيم اليرموك أصبح أشهر من نار على علم، ويستشهد به القاصي والداني يومياً للتذكير بمذابح آل الأسد بحق الفلسطينيين في سوريا ولبنان، ناهيك عما فعله بحي التضامن وبتل الزعتر وغيره من قبل. هل شاهدتم آلاف المهجرين الفلسطينيين وهم يتكدسون فوق بعضهم البعض وهم هاربون من مخيماتهم الذبيحة بدمشق بسبب الهجوم الهمجي والبراميل المتفجرة التي أسقطتها الطائرات السورية فوق رؤوسهم في قلب الشام؟ لا يمكن أن تجد مثيلاً لذلك المشهد النيروني لا في فلسطين ولا في أي مكان آخر منذ عشرات السنين. أما ما فعله النظام بالمدن السورية بحق السوريين فحدث ولا حرج.
هل شاهدتم مدينة حمص أكبر مدينة سورية من حيث المساحة؟ ماذا بقي منها؟ ألم تتحول إلى ركام في معظمها؟ من بقي من سكانها؟ ألم يمارس النظام سياسة تهجير قسري بنفس الطريقة التي تتبعها إسرائيل اليوم مع الغزاويين؟ لا عجب إذاً أن إسرائيل اليوم تقول للعالم إن ما أفعله الآن بأعدائي الفلسطينيين فعله بشار الأسد وحلفاؤه بالشعب السوري قبل سنوات قليلة بطريقة أكثر فظاعة ووحشية وبشاعة وشناعة، وانظروا فقط إلى المدن السورية لتروا كيف تحولت إلى أنقاض، بينما هرب أكثر من نصف الشعب السوري خارج بلده بسبب آلاف البراميل المتفجرة التي أسقطها النظام السوري فوق رؤوس المدنيين. هل شاهدتم كيف تحول مئات الأحياء السورية في مدينة حلب إلى ما يشبه الجحيم، حيث فر ملايين البشر بسبب الدمار الهائل الذي ألحقته بها الطائرات السورية والروسية والميليشيات الإيرانية. هل شاهدتم ما فعله بشار وشركاؤه بمدينة إدلب السورية التي تؤوي اليوم خمسة ملايين سوري فارين من الجحيم الذي لحق ببقية المدن السورية؟ هل شاهدتم ما فعله بمدينة درعا التي وعد بشار بتحويلها إلى مزرعة بطاطا بعد تسويتها بالأرض وتهجير غالبية سكانها، ثم أوفى بوعده؟ هل شاهدتم ريف دمشق الذي تشعر بحالة من الرعب الشديد عندما تراه اليوم لأن شكله الآن يبدو أفظع بكثير من فيلم رعب لما لحق به من خراب ودمار وتنكيل منظم؟
واليوم وفي الوقت الذي تحرق فيه إسرائيل الأخضر واليابس في غزة وتدفع مئات الألوف من الفلسطينيين خارج بيوتهم ومناطقهم، تشن الميليشيات الإيرانية والطائرات الروسية والسورية غارات مماثلة على محافظة إدلب السورية بعيداً عن أعين الإعلام، وكأن هناك تنسيقاً واضحاً بين إسرائيل من جهة وإيران وروسيا والنظام السوري من جهة أخرى. أنت يا إسرائيل تتفرغين لحرق غزة وتشريد شعبها أمام كاميرات الإعلام الدولي، ونحن نتفرع لحرق إدلب وتهجير خمسة ملايين سوري بعيداً عن الأضواء. وللتذكير، فإن إدلب بالنسبة لسوريا كغزة بالنسبة لفلسطين، فكلاهما تشكلان شوكة في خاصرة الغزاة والمحتلين. لاحظوا هذا التزامن الرهيب بين عملية إبادة غزة وعملية إبادة إدلب اليوم. وإذا لجأت إسرائيل لاحقاً إلى استخدام الغازات السامة المحرمة دولياً ضد المقاتلين الفلسطينيين داخل الأنفاق تحت الأرض في غزة، فهي كما قال أحدهم تكون أيضاً تطبق استراتيجية بشار الذي استخدم الأسلحة الكيماوية وكل أنواع الغازات ليس ضد المقاتلين فقط، بل ضد آلاف المدنيين، وخاصة الأطفال السوريين.
والمضحك اليوم أن نفس الذين فعلوا الأفاعيل بالمدن السورية يذرفون دموع التماسيح على غزة وشعبها متناسين أنهم هم الذين قدموا نموذج التهجير والإجرام لإسرائيل لتستنسخه في غزة بحذافيره، وليكون ملهماً لها في عملياتها الهمجية بحق الشعب الفلسطيني حاضراً ومستقبلاً. وقبل سنوات سمعنا كلاماً من الإسرائيليين أنفسهم يقولون فيه إن ما فعله بشار الأسد في سوريا سيشجعنا أن نفعل مثله وأكثر بالفلسطينيين ولن يلومنا أحد، وعلى الأقل نحن لا نفعل ذلك مع شعبنا، بل مع عدونا.
هل لاحظتم الآن أن النظام السوري تحول اليوم إلى ما يشبه المرشد الأعلى لإسرائيل في عملياتها الإجرامية البربرية بحق الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة وغيرها.
كاتب واعلامي سوري
[email protected]