لطالما تصورت أنني سأفكر في ألم شخصي مغروز عميقاً في روحي على فراش موتي. أراني، بعين خيالي التي لا تستطيع أن تقاوم تخيل مشهد النهاية، مسجاة على سرير أبيض، لربما سرير مستشفى، برأس مرهق تحوم فيه ذكرى فقد أليمة في نفسي، هؤلاء الذين فقدت وما ودعت وما زلت غير قادرة حقيقة على الكتابة عنهم بأي درجة من الوضوح والمواجهة. لطالما تخيلت أنني سأواجه نفسي على فراش الموت، سأجتر الألم وأطلب المغفرة ولربما سأسامح نفسي في لحظتها، لا أدري.
اليوم بت أدري، لن أرى ألمي على فراش موتي، لن أشاهد بعين خيالي وجعي ولن أنعى فقدي ولن أحاكم وأسامح نفسي. اليوم بت أدري أنني سأسمع أصوات أهل غزة على فراش موتي، تلك التي حُفرت شديداً وعميقاً في وعيي، وأنني لن أسامح وقتها نفسي. اليوم، بعد أحداث الأسابيع الثلاث الماضية، صغر ألمي، وأتصور كل ألم شخصي لكل إنسان يستطيع أن يشعر على سطح هذه الأرض، ليحتل مكانه ألم كوني، ألم وجودي، لأسمع بدل صوت ألمي أصوات أوجاع حارقة متعددة متناثرة، ولأرى بدل وجه عذابي وجوهاً موجوعة مفجوعة غائبة تائهة كثيرة، وليكون كل ذلك، بكل تأكيد سيكون كل ذلك، آخر ما أرى وأتذكر ولا أسامح على فراش موتي.
غريبون نحن البشر في أنانيتنا، في اعتقادنا أننا مركز الكون وأحداثه، فها أنا أفكر في فجيعة غزة تواصلاً مع نفسي ووصولاً إلى حالتي وأوجاعي ونهايتي. ولكنني إنسانة، مجرد بشر، خُتمت اليوم بختم ألم غزة، أصبحت تجربتها هي تجربتي الخاصة، هي كل ألمي ووجعي ومعاناتي، فكل لا أواصلها بنفسي؟ لا أساند غزة أنا، لقد توحدت بها، أصبحت هي مبدئي وحريتي وعدالتي وميزان إنسانيتي. موقفي من غزة هو مسطرتي الأخلاقية، وألمها وهي تُدَك وعَظَمتها وهي تقاوم هما سرديتي، هما أحداث يومي. سأكون أنا، ولربما كل إنسان شرق أوسطي معجون بهموم بقعته الجغرافية، ناقصة بلا غزة، بلا الضفة الغربية، بلا الخليل والقدس ورام الله. بلا فلسطين ستتداعى قصتي، وستصغر سردية حياتي، وسيقل معنى أيامي في هذه الحياة التي هي بلا معنى أصلاً، وسيصغر فراش موتي كثيراً وينكفئ على ألم شخصي، الذي على الرغم من وجعي العظيم لخيانة ذكراه، عليه أن ينتظر لما بعد مغادرة هذه الدنيا، إن بقي لي وعي بعدها يحتوي ألمي الشخصي هذا ويذكرني به.
في هذه الدنيا، كل وعي وكل مساحة ضمير وكل قدرة على التذكر والتخيل مفردة لغزة، لمعاناتها، لنداءات أهلها، لصراخ صغارها. من منا قادر أن ينسى: «يما قومي يما، الولاد ماتوا بدون ما ياكلوا، بينتقموا منا في الولاد؟ معلش، يا رب بديش أموت، عايشة البنت عايشة عايشة، خليه في حضني اسم الله عليك يمة، يلا يا حجة الله يطعمك حُجة، بيتنفس بيتنفس فين الإسعاف، يا ريته حلم يا ريته حلم، ماليش غيرك يابا أمانة يابا تصحى، تعالوا لي في المنام أشوفكم يمة والله بشتاقلكم يما، كنا نايمين بنعملش إشي، بروح على الكوافير، قصفوا الدار، أبوي مات وأمي كمان استشهدت، يا قلبي يا بابا يا قلبي يا بابا، تِشاهد يا حبيبي تِشاهد، شعره كيرلي وأبيضاني وحلو، خمس سنين بالإبر لما جبناه يا ولدي، في حدا عايش في حدا هين، انقل لرسول الله السلام يا أحمد، قوم ارضع حبيبي قوم، ما خلوليش إشي يابا أضل عشانه، ابني عريس ابني عريس، يا ريت أنا أروح عند أبوي كمان، السبعة مع إمهم السبعة مع إمهم، حطي قلبك ع قلبي يما حس فيك يما، والله ما هي حياة ولا عيشة، مع السلامة الله يسهل عليكو احجزوا لي مكان جنبكوا، ابني شهيد عريس، كنت راح أعمل لها عيد ميلاد شهر تلاتة، يا حبيبي منشان الله يابا رد يابا كلمة وحدة، سلم ع أبوك يما، والله رايح على الجنة إبني، بنت أختي هادي كانت حاملة بنتها، متخافش يابا خلاص يابا أنا كويس، كلهم ميتين أهلي، بعدين أخوي قام يزعق علي كمال يا كمال، الله يرحمه مع السلامة، صاروخ على الولاد صاروخ، والله محنا منهزين، زوجي استشهد يا جماعة، أمانة حد شاف أمي، بدي أزفه عريس».
من منا قادر أن يتجاوز المشاهد: صراخ نساء مخيم الشاطئ وهو يُقصف، ارتجاف أجساد الأطفال، السراويل المبللة، الإسمنت المتكـــــسر حول الأجـــــساد الصغيرة، بكاء المنقذين، انهيار الصحافيين، تفجير سيارة الإسعاف، المشفى المعمداني، الكنيسة الأرثوذوكسية، النازحين على الطريق، وإسراء التي تختفي وتظهر على رسائل تلفوني، وصور انستغرام ورسائل تويتر وعـــــجزي والاستمرار الغرائبي لطبيـــــعية حياتي. هذا ما سأرى وأسمع وأفكر فيه على فراش موتي، وبالتأكيد لن أسامح نفسي.
في آخر لحظة من حياتي سأرى شعر يوسف الكيرلي الحلو، وسأسأل نفسي عن معنى غيابه وعن دورنا جميعاً فيه، سأفكر في كل الأطفال الذين لا يزالون مختبئين تحت الطابوق والإسمنت وسأخبر نفسي أنــــــهم يلعبون الغميضة مع عالم ناقص الضمير جاهل الإنسانية لا يريد أن يجدهم، وسأسمع صوت نحيب الأمهات وسأتمنى أن أذرف دمعة شخصية لن أتمكن منها وسيغمرني ألم جمعي ينــــسيني حاجتي للدموع، وســـــأطلب المغفرة ولن أستحقها، وسأغمض عيني على ما سيكون هو المشهد الأخير: نجاة غزة وانتــصار فلسطين.