بلغة الغرق، يلوح الماء الراكد، إلى أعماقه يدعوني، نحوه أركض زاحفة، يبللني بغياب مستهتر، يبتلع ما تبقى بي من أيام، وبين طيات تجاعيد العمر الطائشة يلقي بجثماني، لكن، صدى متهدل ينبهني إلى أن هناك ثقوبا في جلدي الميت، منها، برأسها تطل الأحلام، وتبتسم للانتظار..
انتظار يسخر من ابتسامات الأمل البلهاء، والفأل الحسن، ودعوات الخير، انتظار يكنس التفاصيل الجميلة بماء غزير، ويلقي بها في البحر.
كل صباح، ما عدا يومي السبت والأحد، عند باب مقر العمل تعانقني فاطمة بعدما وضعت أدوات التنظيف تحت الدرج، بدفء ابتساماتها الرقراقة تحقن أوردتي، وتوشوشني قائلة:
ستجدين في الوات ساب، وردات، وفيديو كيقتل بضحك… أضحك وكأنني اطلعت على هديتها، ثم أصعد إلى، أقصد أصعد إلى الطابق الأول.. ناعمة يد الصبار وهي تربت على كتفي، وتدمي سيري، بنكهة الدماء تخضر الأرض، وبوخز الألم ندرك أننا من الأحياء، الخوف، الظل، العتمة.. أماكن لا تصلح لزراعة الحياة، وإقامة المشاتل.
أن تقف طويلا وبصبر قصير تنتظر وصول الباص، حتى تصل في الوقت المحدد إلى مقر عملك، أو إلى عيادة الطبيب. إنجاز على الشمس أن تصفق له، خاصة أنك تصعد الباص بعد انتظار طويل وسط حشد من العمال، الموظفين، المدرسين، الطلبة، المتسولين، وبعض اللصوص، ولا تبدي غضبا، لا تشتم، لا تبصق ولا تلعن الوقت… تأخذ تذكرتك، وتكتفي بفرقعة أصابعك وأنت تتكئ على نافذة الإغاثة.
في نهاية اليوم وعند عودتي، أحمل في حقيبتي وجوها تسيح ملامحها، ضجيجا أحمل أيضا، تعبا مزعجا يبرع في سرقة ذخيرتي من الصباحات الجميلة، مطارق تتقن التكسير، وتجهل طرق المسامير، منزعجة، بقوة، أرمي بالحقيبة على طاولة في المطبخ، وألقي مفتاح البيت إلى جانبها، على الأرض تسقط من الحقيبة زهرة، لم تذبل رغم ما عانته من زحام بأحشاء الحقيبة، ما زالت تحتفظ بعطرها، ولونها الوردي المائل إلى الحمرة، هي هدية قدمها لي بلال وأنا أدخل صباحا إلى الفصل، ألتقطها، أستقيم في وقفتي، أعود إلى الخلف، وأجلس على كرسي بلاستيكي أبيض اللون، أشم الزهرة، فتتفتح الذاكرة وتعيد إليّ صدى الصباحات الجميلة، وصوت فاطمة وهي توصيني بضرورة الاطلاع في الوات ساب على ما أرسلته إليّ من ورود وفيديو كيقتل بالضحك.. كوجه حائط مطلي بصباغة رديئة، تطل عليّ يدي..
تنصحني بإعادة تقشير كل ما يُقَشر، برتقالتي المُرة، جلدي المجعد، ذكرياتي الآيلة للنسيان.. هي درج من سلم الصعود، تناست – وهي تشير إلى ذلك – أن قدميّ تصابان بالدوخة أثناء الارتفاع، وأن حلمي ينتعل حذاء رياضيا خاصا بكل أنواع الرياضات إلا التسلق… تجر كلي إليها، من أذني اليسرى تدنو، ثم تهمس لي وأنفاسها الساخنة ترافق صوتها الخافت: التحليق يجعلك تبتعدين لترين من سمائك الأرض بوضوح، ستبدو لك صغيرة تلك الشوارع العريضة، تلك البنايات الشاهقة، تلك الجبال، تلك الوجوه، كل الأماكن ستجتمع في نقطة صغيرة واحدة، وبيد ذاكرتك توزيعها على خريطة الزمن والاتجاهات..
ستلتقين هناك بطائرات وصواريخ ورقية، تَنعتك بالمقصرة في التهام الأحاسيس وإضرام الفتنة بها، لا عليك، ما نبني من جسور لا يؤدي دائما إلى ما نحب…
٭ كاتبة مغربية