بدأ الاستعمار التقليدي بعد الحرب العالمية الثانية بالأفول تدريجيا، ليحل محله الاستعمار الجديد، الذي يقوم على تجنب احتلال أرض الغير بالقوة العسكرية، إنما يعمل على سرقة الموارد الطبيعية والبشرية بشكل ظاهر، أو خفي، من خلال إعاقة القدرات الصناعية للدول النامية، لإجبارها على تصديرها كمواد خام، ثم تعيدها إليها على شكل سلع. إلا أن إسرائيل التي أقيمت كأداة من أدوات الاستعمار القديم، وقاعدة له، بقيت متمسكة بهذا الشكل من الاستعمار، بممارستها للتطهير العرقي والفصل العنصري، والسعي إلى قضم الأراضي في الضفة الغربية لإقامة المستوطنات، والعمل على تهجير الفلسطينيين.
ولم تكتفِ إسرائيل باستخدام أنماط الاستعمار الجديد، باستيلائها على الموارد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفائض الجهد لسكانها، الذين يضطر بعضهم إلى العمل في بناء المستوطنات نفسها، بل حافظت معه على الاستعمار التقليدي، برفضها المستمر إقامة دولة فلسطينية بمساحة لا تزيد عن 22 في المئة من أرض فلسطين التاريخية..
وفي مايو 2024، ستحتفل إسرائيل بالذكرى السنوية الـ76 لإقامتها، في ظل أزمات تعصف بها وفي مقدمتها أزمة «الهوية». فإسرائيل الصهيونية تفتقر لمجتمع متجانس، لتكونها من نسيج متباين الأعراق والأديان، ووفقا لبيانات مكتب الإحصاء الإسرائيلي، يصل عدد سكان إسرائيل اليوم إلى نحو 8 ملايين نسمة، 6 ملايين منهم يهود، وبمعدل نمو في وسطهم تصل نسبته لنحو 2%، وبمتوسط 3 أطفال لكل امرأة إسرائيلية. ويتكون المجتمع الإسرائيلي (اليهودي) من ثلاث مجموعات طبقية: السفارديم، وهم يهود إسبانيا والبرتغال، ويهود المشرق العربي، واليهود الأشكيناز من أوروبا الشرقية والغربية، الذين يمثلون نحو 85% من إجمالي اليهود عالميا، ويسيطرون على المؤسسات السياسية والعسكرية والاقتصادية في إسرائيل. وينقسم اليهود الى مجموعتين رئيسيتين: الأولى الحريديم، وهم المتدينون الذين يمارسون الطقوس الدينية وفقا للشريعة اليهودية، ويشكلون نحو 10% من سكان إسرائيل، بنسبة نمو سكاني مرتفعه تصل لنحو 5%، أما المجموعة الثانية فهم العلمانيون، ويشكلون نحو 65% من سكانها، فيما تصل نسبة الفلسطينيين العرب، نحو 20% من إجمالي عدد السكان فيها، بتعداد يصل الى نحو مليون و700 ألف، أكثر من 80% منهم مسلمون، ونحو 10% مسيحيون ونحو 10% دروز. وبعد 76 عاما على إقامة إسرائيل، لا يزال الصراع العرقي ـ الثقافي فيها يزداد حدة، الأمر الذي يؤشر إلى فشل نظرية «الصهر» التي تشكل العمود الفقري للفكر الصهيوني، الذي بالإمكان لمسه، من خلال عمل المكونات العرقية المختلفة في إسرائيل، على إبراز ثقافاتها الخاصة بها، بعيدا عن العنصر «القومي» المصطنع، حيث تعمل جمعيات يهودية على بعث ثقافتها الشرقية، من شعر أندلسي وموسيقى عربية، كما نسمع في الأحياء الشعبية، في المدن الكبرى التي يقطنها اليهود من أصول شرقية، الأغاني والموسيقى العربية.
بعد 76 عاما على إقامة إسرائيل، لا يزال الصراع العرقي ـ الثقافي فيها يزداد حدة، الأمر الذي يؤشر إلى فشل نظرية «الصهر» التي تشكل العمود الفقري للفكر الصهيوني
ويشكل المهاجرون الروس أكبر مكون عرقي في إسرائيل، بثقل ديموغرافي يصل لنحو سدس المجتمع اليهودي الإسرائيلي، وهم لا يزالون يتحدثون اللغة الروسية، رغم مرور أكثر من ثلاثين عاما على هجرتهم إلى إسرائيل، ما يعني انقطاعهم عن «الثقافة» الإسرائيلية، وهو مثال آخر على فشل الحكومات الإسرائيلية الصهيونية، لبلورة «ثقافة إسرائيلية» تستوعب الثقافات العرقية المتعددة. كما فشلت اللغة العبرية أيضا في استيعاب مركبات الهوية الثقافية الإسرائيلية، كما كان يأمل قادة إسرائيل والحركة الصهيونية، فكلما ازداد عدد المهاجرين إلى إسرائيل ازداد التباعد العرقي، وازداد الشرخ في «هويتها» ما يؤشر على نهاية المشروع الثقافي الصهيوني، وفشل المزاوجة بين اليهودية و»القومية» بالإضافة للأزمات التي تعيشها حاليا، فإنها تحمل في طياتها أزمات في طريقها للتفجر في المستقبل. إن دمج مفهومَي اليهودية والديمقراطية، ينطوي هو الآخر على تناقض لا لبس فيه، ذلك أن اليهودية وما تتضمنه من معتقدات وتصورات عنصرية، تتنافى تماماً مع الديمقراطية، التي تعتبر المواطنة والحريات، وحقوق الإنسان والاعتراف بالآخر من أهم الأسس التي ترتكز عليها. فاليهودية ترى في اليهود شعب الله المختار، وعليه فإن أي شعب آخر يعتبر من وجهة نظرهم شعبا أقل مستوى منهم، ما يتناقض مع الديمقراطية. غير أن قادة «إسرائيل» توصلوا إلى أن ما يوحد هذه الجماعات المتنافرة والمنقسمة، الخطر الذي يتهددها، بترسيخ ثقافة الخوف والخطر الذي يمثله العرب على وجود اليهود. إن أزمة الحكم في إسرائيل تجلت بوضوح، من خلال إجراء خمس جولات انتخابات برلمانية في غضون أربع سنوات، إلا أن حزب الليكود برئاسة نتنياهو، تمكن بعد فوزه في انتخابات 2022، من تشكيل ائتلاف حكومي بالتحالف مع الأحزاب القومية والدينية المتطرفة، وعلى رأس جدول أعمال هذا التحالف، إجراء تعديلات قانونية للسيطرة على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، الأمر الذي أدى إلى شطر المجتمع الإسرائيلي لمعسكرين، من الصعب الجسر بينهما: معسكر أقصى اليمين في حكومة بنيامين نتنياهو، وهو مزيج من اليمين الشعبوي والكهاني والصهيوني المتطرف قوميا ودينيا، بالإضافة للأحزاب الدينية، وفي مواجهته، يقف معسكر المعارضة، الذي يضم أحزاب الوسط واليسار، ولكل من المعسكرين، سماته الطبقية والاجتماعية والعرقية، ورؤيته لما يجب أن تكون إسرائيل عليه.
ووفقا للتوظيف الصهيوني للدين سياسيا، فإن إسرائيل اليوم هي «الدولة اليهودية الثالثة» التي أقيمت في فلسطين، لأن الدولتين اليهوديتين السابقتين في فلسطين، وفق السردية الاستشراقية التزويرية، كانت الأولى مملكة (داود) التي تأسست في عهد الملك (شاؤول) حوالي 1020 قبل الميلاد، وتوطدت في عهد خلفه الملك داود، وانقسمت بعد موت ابنه (سليمان) عام 930 ق.م، حيث دامت لـ 76عاما، أما الدولة الثانية، فهي ما تسمى بـ»مملكة الحشمونائيم» التي تأسست عام 140 قبل الميلاد، وانتهت بسيطرة الإمبراطورية الرومانية على فلسطين، عام 63 ق.م ودامت لـ77 عاما. وعلى وقع الأزمات التي تعصف بإسرائيل، أعرب أكثر من مسؤول فيها عن خشيتهم من زوالها في العقد الثامن من قيامها، حيث نقلت صحيفة «ماكور ريشون» عن رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت قوله في مؤتمر صحافي: «إننا داخل العقد الثامن لدولة إسرائيل، وفي تاريخنا كله، كانت لنا دولتان هنا في أرض إسرائيل، لكن لم ننجح أبدا في عبور العقد الثامن كدولة موحدة وذات سيادة».. وسبق أن حذر من ذلك أيضا بنيامين نتنياهو، عندما قال في ندوة دينية إن مملكة (الحشمونائيم) دامت
لـ80 عاما فقط، وأنه يعمل على ضمان نجاة دولة إسرائيل من المخاطر الوجودية لتصل إلى عمر يصل لأكثر من 100 عام. وبهجوم المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر على مستوطنات غلاف غزة، سقط الكثير من الأساطير الصهيونية المؤسسة لإسرائيل.. هذا الهجوم والحرب التي تلته على قطاع غزة، وصفه أكثر من مسؤول إسرائيلي بأنه تهديد لوجود إسرائيل. وكان من أبرز نتائج هذا الهجوم الآنية والمستقبلية تبدد أسطورة الجيش الذي «لا يقهر» الذي لطالما عملت الدولة الصهيونية على زرعها، في عقول العرب على مدى أكثر من 75 عاما، كما تلاشت سياسة الردع وذراع إسرائيل الطويلة، التي لطالما استخدمتها في عمق العالم العربي، ناهيك عن الأزمات في المجالين السياسي والاقتصادي الإسرائيليين…
ومن تجليات هزيمة الصهيونية، أنك مثلا إذا تجولت في أي من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، في الأراضي المحتلة أو في دول الشتات، وسألت طفلا «من أين أنت؟» لن يجبك بأنه من المخيم الذي يسكن به، بل سيقول أنا من مدينة كذا أو قرية أو بلده كذا في فلسطين المحتلة 1948، وهذا ما ينفي مقولة رئيسة وزراء إسرائيل السابقة غولدا مئير «الكبار يموتون والصغار ينسون»!
كاتب فلسطيني