هشاشة المعارضة السياسية السورية

إن نظرة متأملة لواقع المعارضة السياسية السورية كفيلة بأن تضعنا في مواجهة هيكــــل سياسي يكاد يرقى لجسم كائن بشري يعاني من هشاشة العظام المتقدمة، فلا هو قعيد أسير الفراش ينتظر شفاء كسوره، ولا هو صحيح معافى قادر على البذل والنشاط خوف أن تخذله عظامه المتهالكة، فيختار حينئذٍ توازن الحركة شبه الصفرية كأهون الشرور.
وبالطبع فإن التوصيف الفيزيوسياسي أعلاه يتأسس على قاعدة من تفاعل العديد من الأسباب الموضوعية التي أدت في مجملها إلى تشكيل تلك الحالة التراجيدية من حال المعارضة السياسية السورية. وقد يصح إرجــــاع أس تلك الأسباب إلى الأشهر الستة الأولى من عمر الثورة السورية، التي شـــــهدت زخماً طوفانياً من حركة الاحتجاج السلمي في المئات من نقاط التظاهر المنظم تنظيماً استثنائياً، والتي أفرزت بتسارع المتواليات الهندسية قيادات حيوية ومبدعة وفريدة لتلك التحركات الشعبية.
ولقد كانت السمة الغالبة لتلك القيادات هو تحليها بمستوى عال من التحصيل العلمي، فكان فيها الفنانون والأكاديميون والمحامون والمهندسون والتقنيون والأطباء، بالإضافة إلى مرجعيتها الاقتصادية للطبقات الوسطى التي كانت قد عانت الأمرين خلال العقدين الأخيرين من الوحشية المنفلتة من كل عقال لائتلاف الفاسدين والناهبين، من المافيا التي تديرها عائلتا الأسد ومخلوف وشركاؤهما من البرجوازيات الطفيلية في الكومبرادورية في نهب وإفقار وإذلال السواد الأعظم من أبناء الطبقات الوسطى في سورية، وعلى إيقاع تضبطه الأجهزة الأمنية السورية وعديدها الذي لا يحصى، لضمان عدم خروج عملية تحويل الاقتصاد السوري عن سياقها المرسوم له، مع ضمان اقتيات جسم وخلايا الأجهزة الأمنية السورية من الفتات التي يتركها له ائتلاف الفاسدين والناهبين كجائزة له للرقابة الناجعة على بقاء الحال كما هو عليه وتحت الضبط دائماً.
وضمن رحم الحالة الثورية السورية في أشهرها الأولى، كان هناك تسارع مهول في تشكيل الخبرات التنظيمية والقيادية والحركية واللوجستية لتلك القيادات الشعبية الثورية، التي رأت في قضية الثورة السورية مسألة حياة أو موت تشترط اجتراحا لكل الممكنات وتقديم كل التضحيات في سياقها للخروج من ذلك النفق الذي لا نهاية له، حسب شروط معادلة الموت المعلق حتى إشعار آخر السائدة في واقع الحياة الاقتصادية الاجتماعية السورية قبل الثورة، وأن الثورة السورية الراهنة هي بالفعل فرصة الشعب السوري الأخيرة التي قد لا يكون هناك تال لها. وعلمياً كانت تلك القيادات الشعبية قادرة على تبئير هدفها و تبسيطه وإيجاد نقاط التوافق والتقاطعات الضرورية مع القيادات الشعبية للحراك السلمي في المناطق والمدن الأخرى، من دون التمترس حول نقاط الاختلاف الاستراتيجية أو حتى المرحلية لمعرفتها بالضرورة الموضوعية لتوليف الجهود وتضافرها، لأنها كانت وقبل كل شيء مدركة وواعية لحاجات ومتطلبات الكتلة الشعبية المنتفضة التي هي جزء طبيعي وفعلي ومحوري فيها.
ولما انقضت الأشهــــر الستة الأولى من عمر الثورة السورية، وترك الشعب السوري وحيداً ليواجه آلة القمع الوحشية للنظام الأمني الســــوري، حيث وجد ذلك الأخير أيضاً في حالة المواجهة مع الشعب السوري العظيم في انتفاضته مسألة بقاء أو فناء، فكان الهدف الأول لحملات التصفيات الجسدية في أقبية الفروع الأمنية هي قيادات الحراك السلمي، خاصة في ما يتعلق بالصف الأول والثاني، وهــــو ما استكمل ذروته في شهر آب/ أغسطس من العام 2011 .
وحقيقة لقد تعثرت الثورة الســــورية عقب تلك المرحلة حيث كان لابد من الاعتماد على قيادات الصف الثالث، التي لم يكن لها إلا أن تتعثر في عملـــــية تسلم لواء وبوصلة الحراك السلمي، خاصة في مناخ القرار الوحشي المتغول للنظام الأمني السوري بإقحام الجيش السوري في عملية البطش والإبادة المنظمة لكل مكونات الحراك الثوري السلمي وتطبيق سياسة الأرض المحروقة في كل المناطق السورية المنتفضة.
لقد تمكن بالفعل عدد ضئيل من قيادات الصف الأول والثاني للحراك الثوري السلمي من الخروج من الوطن السوري، بالإضافة لعدد موازٍ من قيادات الصف الثالث وما يتبعها من حركيين على الأرض، ولكن من دون أن يتمكن أولئك الأفراد القياديون، ولأسباب ذاتية تتعلق بقلة عددهم نسبياً وأخرى موضوعية تعملقت في سياق تحول الحالة السورية إلى ساحة لتصارع مصالح الجميع على حساب الدم السوري، أن يشكلوا بوصلة التوجيه الفكري والمنهجي والمبدئي في عمل المعارضة السياسية السورية، التي اضطرت للحفاظ على بقائها ككيان عياني مشخص القبول ببدائل أخرى لم تكن جزءً طبيعياً من جسم الثورة السورية وإنما ملتحقاً به؛ وهو ما كانت نتيجته الأولى ضياع البوصلة المنهجية والتنظيمية القادرة على تلمس المطلب الجوهري للكتلة الشعبية التي شكلت جسد الثورة السورية بأطيافه المختلفة في ضرورة التوافق والتعاضد والتضحية بكل ما يرتبط بالأنا الشخصية والسياسية لصالح العمل الدؤوب لتأسيس وطن حر يعيش فيه كل أبنائه بحرية وكرامة بغض النظر عن أي اعتبار سوى انتمائهم للوطن السوري. ولحين أن تستعيد المعارضة السياسية السورية تلك البوصلة المضيعة فسوف تظل على حالها من الهشاشة المهولة المفجعة.

‘ أمين الشبكة السورية لحقوق الإنسان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية