بعد التخرج من مدرسة المعلمين العليا الباريسية المرموقة، التي أنجبت أمثال سارتر وريمون آرون وبول نيزان وميشال فوكو، اصطدم هشام جعيّط فور عودته إلى تونس، عام 1967، باستفحال ما وصفه بـ«الديماغوجية في أبشع مظاهرها (..) فالحزب الواحد كان محكما قبضته على البلاد، والناس يعيشون تحت وطأة الخوف. والرأي المعارض أو المخالف منعدم تماما». عامذاك نشر جعيّط، الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى مطلع هذا الشهر، سلسلة مقالات عميقة في مجلة «الفكر» كان من بينها مقال عن ظاهرة الوحي استرعى، بجدّته وجرأته، اهتمام قارىء نابه هو الحبيب بورقيبة. وقد تبين، بعد أكثر من ثلاثين سنة، أن ذلك المقال لم يكن رمية في الظلام وإنما كان نواة لبحث خطير سوف يصدر، من عام 1999 حتى 2015، في ثلاثية وازنة بعنوان «في السيرة النبوية». كما أتيح لجعيّط أن يبث من الإذاعة الوطنية أحاديث فكرية أعجب بها بورقيبة فأوصى اللجان الثقافية في الحزب الحاكم بدعوة هذا المثقف الشاب إلى أنشطتها وندواتها.
في أثناء ذلك نشر جعيّط، في جون أفريك، مقالا لا يزال دويّه مسموعا في تونس إلى اليوم. كان، حسب قوله، «مقالا صحافيا انفعاليا» انتقد فيه تجاهل أنظمة العالم الثالث لمصالح شعوبها وإغراقها بلدانها في البيروقراطية والانتهازية والتخلف. وكان عنوانه الأصلي: الوصولية والتخلف. لكن البشير بن يحمد تفطّن، بذكائه الصحافي الوقّاد، إلى فعل القنبلة الذي ينطوي عليه المقال، فوسمه بعنوان له صلصلة الناقوس: الوصوليون وصلوا..! وإذا بتلك العبارة، بما فيها من دفق السخرية الحزينة، تقترن منذئذ باسم هشام جعيّط وإذا بها تصير إحدى أشهر أمثولات الثقافة السياسية في تونس. ورغم أن بورقيبة أدرك أن المقال ينتقد نظامه، وربما شخصه هو، فإنه استقبل جعيّط بعيد ذلك في مكتبه الخاص وتحادث معه في تاريخ الحركة الوطنية. صحيح أنه باغته قائلا «أعلم أنك كتبت مقالا سيئا.».، وصحيح أنه كان عاتبا، لكنه لم يكن غاضبا. بل إن جعيّط روى أن بورقيبة قال بعد ذلك في مجلس الوزراء: «عندنا شاب جيد، دعوه يكتب!».
في وجدان هشام جعيّط صلة وثقى بين متباعدين: نزعة التنسّك الأكاديمي الصارم، ودوام الاهتمام بالشأن العام
وفي أعقاب قمع الحركة الطلابية التي اندلعت عام 1968 واستمرت حتى 1969، والتي كان جعيّط من مسانديها هو وزميله المؤرخ محمد الهادي الشريف، الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى أوائل هذا العام، تخوف من أذى وزير الداخلية الطاهر بلخوجة، فقرر العودة إلى فرنسا للتفرغ للبحث. تلك هي الفترة التي شهدت صدور أول كتب جعيّط: الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي (1974) و«نحن وأوروبا» (1978). وهذان الكتابان كافيان، في رأيي، لتكريس مكانته مثقفا مجلّيا في مضمار الفكر التاريخي العربي. الكتاب الأول لأنه لا يزال معاصرا، ومحاصرا، لنا بأسئلة مصيرية لم يحدث، منذئذ، أن طرحت بمثل ذلك المبلغ من الصفاء. والثاني لأنه أول طرح عالي الثقة طارف النظرة يطرحه مؤرخ عربي في أوساط المستشرقين والمثقفين الغربيين. وليس أدل على قيمته الفكرية من أنه نال إعجاب شيخ الفلسفة التاريخية والفكر السياسي ريمون آرون.
إلا أن نجاح الكتب اللاحقة قد جنى على هذين الكتابين الباكرين فصارا شبه منسيّين. حيث أن جعيّط صار معروفا لدى الجمهور القارىء بكتب الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية؛ والفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكّر؛ وثلاثية السيرة؛ وأزمة الثقافة الإسلامية الخ. بل إن نجاح هذه الكتب قد جنى أيضا على كتاب تاريخي هام هو «تأسيس الغرب الإسلامي» الذي يضم دراسات نشرت بالفرنسية في دوريات تاريخية واستشراقية، إضافة للفصل المتميز الذي ساهم به جعيّط في الجزء الثاني (من 4 أجزاء) من الكتاب الجماعي عن تاريخ تونس العام (مع محمد الطالبي، وفرحات الدشراوي، وعبد المجيد ذويب، ومحمد علي مرابط وفوزي محفوظ).
ومثلما اقترن اسم جعيّط في عهد بورقيبة بمقال جريء، فقد اقترن في أول عهد بن علي بمقال أشد جرأة. حيث تصدى في مجلة ريالتي، يوم 16 ديسمبر 1988، لتحديد «بقع الظل» أو العتمة، أي إرهاصات المنزلق الاستبدادي الذي بكّر نظام انقلاب 7 نوفمبر 1987 بالانسياق إليه رغم كل شعارات التغيير الديمقراطي و«لا ظلم بعد اليوم» وكثرة الثرثرة المصمّة للآذان عن دولة القانون وحقوق الإنسان. وبالطبع أطلق عليه النظام أبواقه فهجموا وشتموا، وشنت عليه جريدة لورنوفو العدوان في مقال هجائي ذي عنوان سينمائي: اصمت لمّا تتكلم. وهذه عبارة زجر تهكّمي راجت في الثمانينيات لأنها كانت عنوانا لفيلم إيطالي-فرنسي شهير تدور أحداثه في تونس.
عندما حظيت بمقابلة هشام جعيّط ومحاورته في بيت الحكمة في قرطاج، أدركت أن في وجدانه صلة وثقى بين متباعدين: نزعة التنسّك الأكاديمي الصارم ودوام الاهتمام بالشأن العام (!) كما وجدت في وحدة النبرة بين ذاته وكتاباته مصداقا لقول الأقدمين: الأسلوب هو الشخصية (بل الشخص ذاته).
كاتب تونسي
بقدر ما أقدر تميز بعض رموز النخبة التونسية بقدر ما تصدمني بعض الجرأة في مواقف المنسلخين التغريبيين
لازلت اذكر يوم كنت طالباً في جامعة دمشق/٠كلية الاداب والعلوم الانسانية المحاضرة التي ألقاها د. هشام جعيط 1992 حول الكتابة التاريخية، وقد كان مرفوقاً بالمفكر السوري المعروف د. صادق جلال العظم، الذي قدمه للطلاب، ورغم أن الدكتور جعيط القى المحاضرة بلغة عربية لاغبار عليها، إلا أن أسلوبه في توليد الأفكار اتسم يالتعقيد، مما أعطاني الانطباع بأنه كان يفكر بالفرنسية ويتحدث بالعربية.