في لقاء قديم، مع أستاذنا الراحل هشام جعيّط، في منزله، قبل سنوات من توليه رئاسة بيت الحكمة، وقبل أن أكون عضوا قارا، باقتراح منه مكلفا بالشعر؛ كان الكلام على الأدب عامة، وتحديدا الرواية والشعر. وأذكر مما قاله لنا إنه يقرأ الشعر قديمه وحديثه، بل هو يقرأ كل سنة أكثر من عشرين رواية. كان ذلك أواخر الثمانينيات، عندما كان يكتب أسبوعيا في مجلة «اليوم السابع».
قد يستغرب البعض هذه الناحية في سيرة هشام جعيّط المؤرخ المفكر، ويتساءل على نحو ما يتساءل أهل الفلسفة كلما تعلق الأمر بفلسفة التاريخ، أو حتى بتاريخ الفلسفة، ما إذا كان للتاريخ بمعنى الواقع التاريخي، أو معرفة الماضي معنى، وما إذا كان بالإمكان فهمه أو وعيه أو تفسيره؛ أو الاستئناس به في بناء عقلانية الخطاب التاريخي، أو النأي به عن كونه أشبه بقصة لها بداية ووسط ونهاية «أخلاقية». وكأنْ لا معنى للتاريخ سوى ظهور الأخلاق أو الإعلاء من شأنها، وتحقيق «الطبيعة/ الطبائع الإنسانية»؛ على قلق هذه العبارة.
وليكنْ فالمؤرخ هو الذي ينشد معنى للتاريخ، أو هو الذي يستشعر أن للتاريخ وجودا؛ وقد لا يكون هناك واقع تاريخي أصلاً، إذ هو بناء يُهدم ويبنى ثانية؛ وهكذا دواليك في عود أبدي لا ينقطع، وليس مجرد سرد لوقائع وأحداث استئناسا بوثائق وشهادات وآثار. وإذا كان ثمة «حقيقة» تاريخية، فهي بناء أو هي حقيقة مرجأة أبدا؛ ما دامت ذاتية المؤرخ هي التي تصنع الحدث؛ وهو حدث لا وجود له إلا في نصه، حيث تختلط الوقائع والأحداث والدسائس والمكائد والمؤامرات، أو هي تنتظم في حبكة أشبه بحبكة المسرحية أو الرواية البوليسية، شخصيات وممثلين، وحيث يندمج كل شيء في نوع من السرد يمكن أن نصفه بـ»البراغماتي» أو «الذرائعي» يُرد فيه الحدث إلى الاختبار والتجربة، بدون فصل بين العقل والحس، أو بين العمل والفكر، أي جعل التاريخ في خدمة الحاضر؛ وليس استخلاص دروس منه، حتى إذا استشعرنا لمح صلة أو أوجه شبه بين الماضي والحاضر. يقول هشام جعيّط: «التاريخ في الحقيقة لا شيء، هو مجموعة غرائزنا ومطامحنا مهيكلة في نظم وبنى، تذهب وتزول؛ ثم يعود تركيبها في صور أخرى. ونحن ننساه، لأنه معرض بطبيعته إلى النسيان. وهو حروب وثورات وأناس كانوا مثلنا؛ عاشوا كما عشنا، وماتوا كما سنموت».
وفي هذا السياق يتنزل مقالي الذي أرصد فيه، ولو باختزال، وجها آخر لهشام جعيّط قارئ الأدب وتحديدا الشعر. أقول باختزال، لأني لا أبحث هنا في أسلوب هشام جعيط، أو أقارن بين كتاباته بالفرنسية وكتاباته بالعربية؛ وهو القائل: «لا شيء أحب إليّ من أن يكتب الشاعرُ بدقة المفكر الباحث، والمؤرخ بشاعرية الشاعر وخيال القصاص، والروائي بقوة نظرة الفيلسوف «والسماء المرصعة بالنجوم على رؤوسنا وقانون الأخلاق في أعماق قلوبنا» كما كان يقول كانت». (اليوم السابع 23 نوفمبر/تشرين الثاني 1987). وألتقط من الشاهد أعلاه كلمة «النسيان»، وأتساءل: ما الذي ننساه؟ ما الذي نحتفظ به أو نتذكره؟ من مفارقات الذاكرة أننا في حال النسيان، أو الغفلة والذهول والسهو، لا ننسى كل شيء. ومما يؤكد ذلك أننا نشحذ ذاكرتنا حتى نستحضر حدثا كنا غفلنا عنه، أو «نسيناه»، ذلك أن أثره لا يُمحى تماما؛ وإلا لما كنا وعينا نسيانه.
إن «النسيان» شكل من أشكال حضور الغائب، أو هو ضرب من استخفاء الأثر. وكل شيء عرضة للنسيان، كما يقول هشام جعيّط؛ ولكنه يستدرك ويستثني، فالإنسان ينسى أو هو يمكن أن ينسى وقائع التاريخ وأحداثه أو بعضها: «إلا إذا رأى فيه صوت الخلود: أنين الشاعر وسمفونية الموسيقار، وفكر الفيلسوف الملتهب، ونداء النبي». ويضيف أننا عندما نستمع إلى هؤلاء «نتذكر أنه وجدت مدن وامبراطوريات». ويتمثل الأستاذ بكتاب أندري مالرو «أصوات الصمت»، فمتحف اللوفر يمنحنا حسا بالتاريخ؛ حتى بالنسبة إلى الإنسان الساذج، الذي لا يعي جمالية «الفن البلاستيكي» ورسالته، ويرى متنقلا بين اللوحات والمنحوتات، كل تاريخ فرنسا وأروربا، لكن»ماذا يتبقى من التاريخ في الوعي الساذج، سوى بعض الأسماء ـ العلامات في مجال حضاري معين». وها هنا ننتقل معه إلى الثقافة والحضارة العربيتين، فنحن نتذكر الخلفاء الراشدين وهارون الرشيد، وفي الأزمنة الحديثة جمال عبد الناصر، وعدد أكبر بكثير من أسماء الفنانين والمفكرين والعلماء. يقول جعيّط: «الحقيقة أن كثرة الحكام والقادة من صانعي التاريخ تخبو مع الزمن وتتلاشى، بينما يبقى ذكر المبدعين الذين صنعوا الثقافة، ونحتوا الشخصية الجماعية، وأثروا في تكوين الحساسية والرموز».
والحق أن هشام جعيّط المؤرخ المفكر جدير بوقفة أعمق من هذه، وهو الذي يعرف كيف يقرأ الحدث التاريخي ويعيد بناءه، مثلما هو يعرف كيف يستشرفه؛ وكأن العالم، كلما قرأنا لأستاذنا «خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث»، بعبارة جده ابن خلدون.
والشعراء هم أظهر هؤلاء المبدعين الذين تحتفظ بهم ذاكرة التاريخ؛ خاصة في ثقافة مثل ثقافة العرب، حيث لم تسلم كلمة شعر نفسها، من الغموض ولا برئت منه. وكان الشعر يُقرن بأجواء الغيب والإلهام والوحي والتوقيف، مثلما كان يُقرن بمفهوم الخلق والصنعة والنظم والمحاكاة وضوابط الوزن والقافية والمعنى واللفظ، وما إلى ذلك مما هو ذائع مبذول في المدونتين النقدية والفلسفية، بل في مصنفات الإعجاز، كما هو الشأن عند الباقلاني وعبد القاهر الجرجاني؛ حتى إنه كان لا يُنشد في الجاهلية، إلا على وضوء؛ كما ينقل حازم القرطاجني في «منهاج البلغاء وسراج الأدباء» عن ابن سينا. ولا غرابة إن كان العرب المسلمون يلتمسون في الشعر، كل ما خفي عنهم من غريب القرآن، أو ما اشتبه عليهم منه، وأشكل.
نقول هذا استئناسا بما قرأناه لأستاذنا هشام جعيّط، من ضرورة إعادة الاعتبار إلى هذه العلاقة بين الشعر والعلم بالمعنى الواسع للكلمة، في ضوء التاريخ. والمسوغ لذلك في تقديره أن للتاريخ ذاكرة أدبية، أو لنقل «شعرية» بالمعنى الواسع لكلمة شعر؛ فالتاريخ يكاد لا يحتفظ إلا بكبار المبدعين والشعراء؛ ويغفل أو يكاد رجل السياسة، لأنه «رجل الساعة، يعمل في إطار الآني قصير الأمد؛ فتتلاشى أعماله متى اندثرت الظروف والمصالح، والتركيبة التاريخية التي عايشها. بينما المبدع، وإن كان أيضا منغمسا في زمانه، يتجه إلى الإنسان عامة؛ ويؤثر فيه حتى بعد ألف سنة». ويذكر جعيّط الخليفة هارون الرشيد، فلماذا يعرفه الناس، ويستحضرونه؛ ولا يعرفون أبا جعفر المنصور مؤسس الدولة العباسية، والرجل القوي في التاريخ السياسي؟ وجوابه أن الرشيد إنما خلّده الأدب، أي «ألف ليلة وليلة»، هو ووزيره جعفر البرمكي «فاخترق بفضلها الزمن والتاريخ». ويتساءل: وماذا عن بغداد التي ترتبط صورتها دائما في مخيالنا بذكرى الرشيد؟ ويجيب «بغداد ترسخت في المخيال العالمي، من وراء هذا الأثر الفني البديع؛ فبقيت أسطورة تلعب بخيال كل إنسان». ويذكر حشود الشعراء والأدباء والعلماء الذين تحتفظ بهم الذاكرة، من أبي نواس إلى إبراهيم الموصلي إلى إبي حنيفة.. إلى البحتري في «سينيته» الشهيرة «صنت نفسي عما يدنس نفسي»، حيث يبرع في تصوير إيوان كسرى.
ومن المعاصرين، يقول عن بدر شاكر السياب أحد كبار رواد الشعر العربي الحديث: «أنا شخصيا لم أتعرف بشيء من الدقة على مسيرة العراق في الأعماق، ابتداءً من العشرينيات، إلا بعد انكبابي على سيرة بدر شاكر السياب. إذاك برز لي هذا البلد في بنيته الاجتماعية وتطوراته السياسية من لدن الحكم العثماني في أواخره إلى الحكم الملكي إلى دواخل ثورة 58 وانتكاساتها. كل العراق يقف أمامك في لوحة متكاملة من خلال السياب وبفضله: القرية الصغيرة جيكور، التركيبة العائلية، النظام التعليمي، الإدارة، الحياة السياسية، التيارات الأدبية. الشاعر الكبير يجرنا جرا إلى عالَم بأسره، يكشفه لنا، لأنا نحب شعره ونحب حياته المأساوية. هنا العراق بأسره يصير إطارا يضم عملاقا وإنسانا وقلب شاعر وأديب».
والحق أن هشام جعيّط المؤرخ المفكر جدير بوقفة أعمق من هذه، وهو الذي يعرف كيف يقرأ الحدث التاريخي ويعيد بناءه، مثلما هو يعرف كيف يستشرفه؛ وكأن العالم، كلما قرأنا لأستاذنا «خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث»، بعبارة جده ابن خلدون. يقول جعيّط مستشرفا: «أعتقد أنه من الممكن أن أرتقي إلى أرفع المطامح، وأن أضع تحت رؤيتي ونصب عينيّ كل حضارات العالم، ماضيا وحاضرا، وأني قادر على وعيها متى عزمتُ على ذلك. نعم! في إمكاني أن أعي روح أمريكا ومشروعها الحضاري وضعف استراتيجيتها، وأن أعي قلب فرنسا من فجر تاريخها، وأن افهم ريح الشرق الآسيوي، وأن أحب افريقيا. في هذه الوقفة المطلة من أعلى، جانب وافر من الغرور وآخر من العظمة وآخر أيضا من التعويض عن تفاهتي. إنما أيضا في ذلك، وهو ما هو أعمق توق إلى اكتساب إنسانية أسمى وتوق إلى الكمال العقلي. من هنا نقطة البداية…» (اليوم السابع، 03 أغسطس/آب 1987)
شاعر تونسي