هكذا تعمل المركبات ذاتيّة القيادة … وتقدم كبير في المجال الطبّيّ

عز الدين طيطي
حجم الخط
0

«الذكاء الاصطناعي» مصطلح جديد بات يتردد بكثرة على كل لسان ويثير الآمال والمخاوف: هل سيسهم في تحسين حياة البشرية من خلال زيادة الإنتاج والاستخدام الأمثل للموارد وتقدم الطب وبقية العلوم، أم أنه سيأخذ وظائفنا ويجعلنا معتمدين عليه في كل شيء تقريباً ويصبح قادراً على تطوير نفسه بمعزل عنا وصولاً إلى سيطرته التامة علينا، ما يعني القضاء على البشرية كما نعرفها؟ وهل هو فقاعة ستنفجر في وقت ما، أم أداة مستدامة؟
في الحقيقة، لا أحد يستطيع الآن تقديم إجابات وافية وصحيحة مئة في المئة على أيّ من هذه الأسئلة، بما في ذلك مطوّري الذكاء الاصطناعي وعلمائه أنفسهم. إلا أنه يمكن الإضاءة على بعض المجالات التي حقق فيها الذكاء الاصطناعي نجاحات ملموسة تفيد البشرية.
يقول أندرو إنج، أستاذ الذكاء الاصطناعيّ في جامعة ستانفورد العريقة ومؤسّس «مشروع» العقل في شركة «غوغل»: «الذكاء الاصطناعيّ هو الكهرباء الجديدة، في إشارة إلى الثورة التي يحدثها في حياتنا، كما فعل اكتشاف وانتشار الكهرباء.
وكما استبدلت الآلات الكهربائية الكثير من الأعمال اليدويّة الروتينيّة، فإن الذكاء الاصطناعي قادر على القيام بمهمات كان إنجازها يعتمد تماماً على قدرات العقل البشري، حيث نرى تطبيقاته في أتمتة المصانع وخطوط الإنتاج والشحن، وأنظمة الأمن والحماية سواء من خلال التعرّف على الوجوه أو مقاومة الهجمات السيبرانيّة.
وسأتناول باختصار بعض تطبيقات الذكاء الاصطناعيّ في مجالين عملت فيهما شخصياً وكانا سابقاً مادة لأفلام ومجلاتِ الخيال العلميّ، ولكنهما أصبحا الآن واقعاً يُسهّل حياة وينقذ حياة الكثيرين، وهما المركبات ذاتيّة القيادة، وعجائب الطبّ.
قد يبدو للبعض أن قيادة المركبات عمليّة سهلة بعد تعلمها وممارستها والتعوّد عليها، لكنها في الحقيقة عملية معقدة تتطلّب رؤية وتحليل المحيط، والتعرّف على المركبات الأخرى وتوقّع نوايا سائقيها ومساراتهم المستقبليّة ثمّ اختيار مسارٍ آمن يضمن عدم التصادم مع المركبات الأخرى أو المشاة.
فكيف نستطيع صناعة نظام آلي، ثم قيادة المركبة بأمان؟ لقد أصبح الأمر ممكناً بفضل سنوات من البحث والتطوير وتصنيع الرقاقات الحاسوبيّة والمستشعرات البصريّة للكاميرا والحسّاس الضوئي والتي هي «عيون» نظام القيادة الذاتيّ القادر على رؤية كامل محيط المركبة (360 درجة) في آن واحد وتوفير رؤية أدقّ بكثير من قدرة العين البشرية في الظروف الصعبة مثل المطر أو الليل.
هذه المدخلات البصريّة التي توفرها المستشعرات والحساس الضوئي يتم إدخالها إلى نظام ذكاء اصطناعيّ، يقوم بتحليلها للتعرّف على المركبات الأخرى وتحديد سرعتها وبعدها عن السيارة وتوقّع نوايا سائقيها. ثمّ يقوم نظام ذكيٌّ آخر باقتراح المسار الأكثر أمناً، ثم يقوم نظام ثالث بتطبيق هذا المسار من خلال التحكّم في عجلة القيادة والوقود.
وحاليًّا يوجد الكثير من الشركات حول العالم التي تعنى بتطوير مركبات ذاتيّة القيادة، مثل شركة «أوكسا (أوكسبوتكا سابقاً)» في مدينة أوكسفورد البريطانية التي تقوم بتطوير حافلات نقل الأمتعة في المطارات، والآليّات الثقيلة في المناجم والغابات، وشركة «وابي» في تورنتو المتخصصة في صناعة شاحنات قيادة ذاتية لنقل البضائع، وشركات «وإيمو» و«وايف» و«كروز» التي تصنع سيارات أجرة تنقل الزبائن في المدن المزدحمة مثل لندن في بريطانيا وسان فرانسيسكو وفينيكس في الولايات المتّحدة، كلّ المركبات المذكورة هي ذاتيّة القيادة.
واللافت أنّ نسبة الحوادث الناجمة لكلّ كيلومتر قيادة لأنظمة القيادة الآليّة هي أقلّ من تلك الناجمة عن القيادة البشريّة.
المجال الآخر الذي حقق فيه الذكاء الاصطناعي تقدماً هائلاً هو المجال الطبّيّ. في البداية، تمّ استعمال الذكاء الاصطناعيّ في تطبيقات بعيدة عن الاحتكاك بالمريض أو داخل غرفة العمليّات مثل تشخيص بعض الأمراض وأنواع من السرطانات من خلال تدريبه على تقييم الصور الطبية الملتقطة من خلال الرنين المغناطيسيّ «إم.آر.آي» أو الأشعّة المقطعيّة. ولكن مؤخراً تمّ استخدام الذكاء الاصطناعي، لأبعد من ذلك، فبدأ بالدخول إلى غرفة العمليّات، بل وجسم المريض. مثلاً، نظام «ساراس (اختصار لجرّاح مساعد آليّ وذكيّ)» يقوم بتحليل ما تراه كاميرا الجراحة الداخليّة خلال العمليّة الجراحيّة، ثمّ يميّز ما يقوم به الجرّاح (قطع ورم ما) ثمّ يساعد الجرّاح بمهمته (القبض على الورم من الجهة الأخرى أو تحضير الكيس الذي سيحمل الورم خارج الجسم).
مشروع آخر عملت عليه بالشراكة مع جامعة إمبيرال كولدج لندن هو مشروع «مايسترو (اختصار لغرفة عمليّات ذكيّة)» والذي يقوم، ضمن أشياء أخرى، بالتعرّف على الطاقم الطبيّ والأدوات الجراحيّة داخل غرفة العمليّات ويقوم بالتنبيه في حال وصول أي من أفراد الطاقم الطبّيّ إلى مستويات إرهاق عالية قد تؤثّر على سير العمليّة. التطبيق الأخير الذي عملتُ عليه خلال وجودي في شركة هندسة طبّيّة تدعى «ألفا أوميجا»، هو المساعدة في تخفيف الرجفة التي يعاني منها المصابون بمرض الرُعاش «باركنسون» من خلال استعمال الذكاء الاصطناعي في تحديد المنطقة الدماغية المراد تحفيزها كهربائياً لوقف الارتعاش. وعملية التحديد هذه يجب أن تكون حساسة ودقيقة ولا تقبل أدنى درجة من الخطأ؛ لأنّ تحفيز منطقة أعلى من المنطقة الصحيحة، ولو بعُشر مِليميتر، قد يؤدّي إلى شلل في عضلات الوجه، في حين قد يؤدي تحفيز منطقة أدنى من المنطقة الصحيحة إلى حدوث اكتئاب.
يمكن بالطبع إيراد الكثير من الأمثلة عن مجالات استخدام ونجاحات الذكاء الاصطناعي، ولكن ما ذكرته يكفي لإلقاء بعض الضوء على العالم العجيب للذكاء الاصطناعي، والذي هو في نهاية الأمر تقنية واعدة تقوم بأتمتة الكثير من المهام التي تتطلّب جهداً عقلياً وبدنياً.
أما المُحدد لكيفية استخدامها وحدود وضوابط هذا الاستخدام فهو الإنسان، مما يفتح الباب أمام التساؤلات والنقاشات الفلسفية والأخلاقية والقانونية.
ففي النهاية، ومثلما أن تطور علمي الكيمياء والصيدلة مكّنا البشر من اكتشاف مواد وأدوية مفيدة، فقد تم استخدامهما لإنتاج الأسلحة الكيميائية والسموم.
والشيء نفسه ينطبق على الذكاء الاصطناعي؛ فإلى جانب قدراته الهائلة على تقديم منافع للبشرية، فإنه قابل للاستخدام للتجسس والسيطرة والتلاعب بالأسواق وشل عمل المرافق الخدماتية.
باحث في مجالات الذكاء الاصطناعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية