هل الدين هو سبب الصراع؟

حجم الخط
0

فصل الدين عن الدولة مطلوب لإحلال السلام، إبعاد الدين عن الشأن العام مهم لإنهاء الحروب، البلاد العربية لا تصلح لها إلا العلمانية، الحروب الطائفية لا مخرج منها إلا بالعلمانية، التعايش السلمي منتج علماني، والعلمانية هي سبب تقدم الغرب، فيما الدين سبب رئيسي في تخلف الشرق والمسلمين، ولذا يجب إبعاده عن الاقتصاد والسياسة والشأن العام برمته.
خرجت أوروبا من الحروب الدينية بفضل العلمانية، وتشكلت الدولة القومية، فيما بعد، بفضل شيخ الليبرالية جون لوك الذي قدم دراسات رائدة في مجال الحقوق والحريات، وهذا هو الجانب المشرق في فكره، لكن الكثيرين لا يعرفون أنه كان – في الوقت الذي ينظر فيه للحرية – أحد كبار المستثمرين في «الشركة الأفريقية الملكية» التي كانت من أبرز شركات تجارة العبيد بين أفريقيا وأوروبا، في رمزية بالغة الدلالة على زيف الشعارات البراقة.
وفي حين أنه لا ينبغي إنكار حقيقة أن السياسة توظف الدين لصالحها، بسبب قدرة الدين على تحريك الجماهير، فإن النازية والفاشية اللتين مارستا أبشع الجرائم كانتا علمانيتين بطبيعة الحال، وأمريكا التي ألقت القنبلة النووية، والدول التي فجرت الحرب العالمية الثانية، والسوفييت الستاليني، كل تلك الدول والأنظمة هي أنظمة علمانية، والكثير من المنظمات الإرهابية حول العالم هي منظمات علمانية، لا علاقة لها بالدين.
ثم، هل كان الدين هو مفجر الحربين العالميتين: الأولى والثانية، أو كان الذي ألقى القنبلة النووية يمسك بسبحة في يده؟! وهل كان الدين سبب حروب إبادة شعوب الهنود الحمر من قبل، أم أن المغامرين الانتهازيين الأوروبيين الذين وصلوا للأمريكيتين ذهبوا هناك لإدخال شعوب تلك البلاد الجنة؟!
ألم يتم غزو العراق من قبل الديمقراطية العلمانية، وإسرائيل التي تحتل فلسطين، أليست محسوبة على المعسكر الليبرالي الغربي. واليمين الغربي المتطرف الذي يبث خطاب الكراهية والعنصرية، وكل ما هو نقيض العلمانية والليبرالية، أليس يميناً علمانيا؟
ثم أليس الكثير من الأنظمة الديكتاتورية التي صادرت الحريات، وقمعت الشعوب، أليست تلك أنظمة علمانية؟
وبنظرة لبعض بلداننا العربية التي تضربها الحروب، والتي لم تكن الطائفية سبباً فيها، نجد أن الأسباب ترجع لعوامل سياسية قبل أن ترتبط بالدين. الحرب الأهلية في السودان ليس للدين دخل بها، وهي بين أبناء دين واحد، وكذلك الأمر في ليبيا، وهذان النموذجان واضحان بشكل لا لبس فيه، ولو دققنا النظر في الحروب الأهلية في اليمن والعراق ولبنان وسوريا، لوجدنا أنها حروب سياسية تلبس ثوب الدين، وبالتالي فإن الدين في حقيقة الأمر لم يكن أكثر من ذريعة للوصول عبر الحرب للهدف السياسي، وإلا فهل يعقل أن الحوثيين في اليمن الذين فعلوا كل ما يناقض رسالة الدين، هل يعقل أنهم عملوا ذلك بدوافع دينية؟
إنها الذرائع الدينية لا الدوافع الدينية، حيث يُتخذ الدين ذريعة للوصول إلى تحقيق المصالح التي تناقض جوهر رسالة الدين ذاته، دون أن تكون تلك الذرائع هي الأسباب الحقيقية.

كانت قبائل العرب في فترة ما قبل الإسلام تتصارع حقيقة على الماء والكلأ، ولكن القبائل المتصارعة كانت تستحضر معها بعض آلهتها لاستنصارها، لكنها كانت تدرك أنها لم تكن تتصارع على الآلهة، أو لأجلها، وكان السلب والنهب هو الهدف

وعندما نبحث عن الأسباب الحقيقية للصراع، فإننا نجدها ضاربة في بنية التخلف العلمي والفكري والمجتمعي والاقتصادي والسياسي، إلى جانب غياب مفاهيم العدالة، وقمع الحريات، ومصادرة الحقوق، وهذه كلها أسباب لا علاقة لها بنوع الدين الذي يتدين به الناس، أو حتى المذهب الذي يتمذهبون به، ولكن علاقتها واضحة بالتنافس غير الحميد، والجشع للثروة، والهوس بالسلطة، وهذه خصال ينهى عنها الدين، ولا يمكن أن تكون أسباباً دينية، غير أن المتصارعين لا يجرؤون على كشف حقيقة أسباب الصراع، فيلجؤون للذرائع الدينية، للتغطية على الأسباب الحقيقية للصراع، ولكسب المؤيدين والأنصار، ولتشويه الخصوم.
السياسة هي التي تفجر الصراع، والمصالح هي التي تبعث على الحرب، ولكن السياسات دائماً تلبس مسوح الراهب وجبة الشيخ، لتغطي على حقيقة سعيها لتحقيق المصالح بطرق غير مشروعة، بواسطة الدين الذي تحاول عن طريقه شرعنة حروبها أمام الرأي العام، لكسب الأنصار، وتبرير الجرائم.
هناك شعوب لها قابلية للصراع، وتدمير الذات، فإذا وجدت فيها طوائف مختلفة ظهرت صراعاتها في ثوب طائفي، وإذا انعدمت الذريعة الدينية أو الطائفية، فإنها لا تعدم الذرائع الوطنية، أو العرقية أو القبلية، لتجعل منها رايات تعطي الصراع مشروعيته، وتخرجه الإخراج المناسب الذي لا يرى فيه الأتباع – الذين هم وقود الحرب – صراعاً على المصالح، بل يرون فيه صراعاً قيمياً يدور حول المبادئ المرفوعة في الشعارات البراقة.
وكما أن هناك دولاً تضربها الحروب الأهلية، رغم عدم وجود طوائف مختلفة، فإن هناك دولاً توجد بها طوائف مختلفة، وقبائل مختلفة، وأعراق متعددة، لا تحدث بينها صراعات طائفية أو قبلية أو عرقية، ليس لأنها دول علمانية، بل لأن بها قدراً معقولاً من النظام، وقوة المؤسسة، وحضور الدولة، مع نسبة مقبولة من الوعي المجتمعي، والتعايش السلمي الذي يمنع اندلاع الصراعات، ذلك أن الناس لا يقتلون بعضهم ـ في الواقع ـ لأن بعضهم يذهب للمساجد، فيما يذهب البعض الآخر إلى الكنائس، أو لأن البعض يضم في صلاته، فيما البعض الآخر يسربل فيها، هذه أمور لا تبعث على الصراع، لكن الذي يبعث على الصراع، هو تضارب المصالح، وما يتبعه من بواعث غير دينية.
إن إبعاد الدين عن الحياة العامة، أو فصل الدين عن الدولة، أو فصله عن الأخلاق والمعاملات والاقتصاد والسياسة، كل هذا لن يحل معضلة الصراعات المستدامة في بلداننا، بل إن الحل لهذه الصراعات يكمن في معالجة أسباب الصراع، والأسباب غير الذرائع، والذين يذهبون إلى تحميل الدين مسؤولية الصراعات المتفجرة يجهلون حقيقة أنهم خلطوا بين الأسباب التي هي مفجرات الصراع، والذرائع التي هي مجرد أسباب وهمية تهدف للتغطية على الأسباب الحقيقية لهذه الصراعات.
وإذا كان الدين هو مفجر الصراع فلماذا تعاونت طوائف مسيحية مع الفاتحين المسلمين ضد الرومان المسيحيين في حروب الفتوحات الإسلامية؟! ولماذا انضم المسيحيون العرب مع المسلمين، لقتال أبناء دينهم من الصليبيين؟ ولماذا تحالفت فرنسا الكاثوليكية مع القوات البروتستانتية ضد امبراطورية هابسبوغ الكاثوليكية أثناء فترة ما أطلق عليها الحروب الدينية في أوروبا التي انتهت بصلح وستفاليا سنة 1648؟! ولماذا تحالف بعض مسلمي الأندلس مع الممالك المسيحية ضد إخوتهم في الدين، إبان فترة ملوك الطوائف؟! ولماذا يتصارع أبناء الدين الواحد، بل وأبناء المذهب الواحد في الدين ذاته، بشكل أكثر عنفاً من الصراعات التي تندلع بين أبناء الأديان والمذاهب المختلفة؟!
ألا يعني ذلك بوضوح أن أسباب الصراع تقع في مساحة أخرى، خارج حدود الدين والمذهب، وداخل حدود المصالح والمنافع؟ إن الصراع مرتبط دائماً بالسلطة والثروة، لا بالدين والمذهب، ولهذا يحدثنا التاريخ عن إخوة في الدين قتلوا بعضهم، في الصراع على السلطة والثروة، وأن إخوة في «الجين» قاتلوا وقتلوا أشقاءهم الذين لا يجمعهم بهم وحدة الدين والمذهب وحسب، ولكن وحدة الأسرة والأبوين، وهو ما يؤكد أن للصراع عوامل أخرى غير الذرائع التي يحاول البعض تسويقها على أساس أنها الأسباب الحقيقية للصراع، هروباً من مواجهة الأسباب الحقيقية.
ولو كانت الأديان هي السبب الحقيقي للصراع لما وجدنا أبناء الدين الواحد ـ بل وأبناء المذهب الواحد ـ يتصارعون، ولو كانت الأديان هي السبب الحقيقي للصراع لما وجدنا اللادينيين يتصارعون كذلك.
لقد كانت قبائل العرب في فترة ما قبل الإسلام تتصارع حقيقة على الماء والكلأ، ولكن القبائل المتصارعة كانت تستحضر معها بعض آلهتها لاستنصارها، لكنها كانت تدرك أنها لم تكن تتصارع على الآلهة، أو لأجلها، وكان السلب والنهب هو الهدف، لأن أية حرب تحتاج إلى مشروعية دينية، وهذا ما كان يدفعهم لإحضار تلك الآلهة الصنمية معهم إلى أرض المعركة، للأسباب ذاتها التي تجعل المتصارعين اليوم يستحضرون الرايات الدينية لتغطي عورة حروبهم على المصالح والنفوذ.

كاتب يمني

الحرب العالمية الثانية
السوفييت الستاليني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية