برلين ـ”القدس العربي”: الإضراب التحذيري الأخير الذي أعلن عنه عمال شركة القطارات الألمانية “دويتشه بان” الأسبوع الماضي والذي أدى إلى تعطل حركة المرور في البلاد ألقى بظله على السياسة لا سيما وأن هذا الإضراب بخصوص تحسين شروط العمل والرواتب يأتي متزامنا مع الاحتجاجات في فرنسا والتي أطلق عليها مجازا “السترات الصفراء”. المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل وان كانت منذ بداية الاحتجاجات في فرنسا أعلنت عن أهمية “وجود فرنسا قوية بجانب ألمانيا” وهو ما اعتبره البعض تأييدا لسياسة ماكرون، إلا أن ذلك لم يؤد إلى ابتعاد ألماني عما يجري في فرنسا بل بالعكس، إذ أن بعض الأحزاب الألمانية أعلنت تأييدها لهذه الاحتجاجات ولعل أبرزها حزب اليسار.
قيادة حزب اليسار الألماني أعلنت تضامنها مع الاحتجاجات الاجتماعية لحركة “السترات الصفراء” بفرنسا. وأعلن الحزب أنه تم اتخاذ قرار إعلان التضامن خلال اجتماع لمجلس رئاسته، وذكر أن احتجاج “السترات الصفراء” ضد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مبرر، لأن حكومته تخدم “مصالح صفوة الأثرياء وحدهم”. وأضاف: “نرى في اتساع المقاومة الاجتماعية تشجيعا لألمانيا أيضا”.
كما أن رئيس حزب “اليسار” الألماني، بيرند ريكسينغر، أعرب الأسبوع الماضي عن تشككه إزاء الحركة. وقال في تصريحات لصحف شبكة “دويتشلاند” الإعلامية الألمانية: “قوة اليمينيين المتطرفين في صفوف الحركة مثيرة للقلق”.
فيما أكدت رئيسة الكتلة البرلمانية للحزب سارة فاغنكنيشت، أن من السليم أن يدافع الناس عن أنفسهم عندما تتسبب السياسة في تدهور حياتهم، معربة عن أسفها لمحاولة قوى يمينية الاستيلاء على الاحتجاج والزج به في مسار العنف، مضيفة في المقابل أن مطلب الاحتجاج “مبرر تماما”.
هذه الأمور وغيرها دفعت القادة الأوروبيين إلى تبني نهج إصلاحي أوروبي بشكل سريع لا سيما بعد دعوة منظمي مظاهرات “السترات الصفراء” عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى مظاهرات في كل من فرنسا وبلجيكا وهولندا.
يشار إلى أن سياسيين وممثلين عن “السترات الصفراء” اتهموا الحكومة بافتعال هجوم ستراسبورغ، لإخماد الحراك الاحتجاجي، المستمر منذ أسابيع. وقال نيكولا دوبون آينيون، رئيس حزب “انهضي فرنسا” (يمين) إن هناك محاولات لاستخدام الحادث في إسكات المحتجين. ولم تفلح تدابير اجتماعية، أعلن عنها الرئيس إيمانويل ماكرون، قبل أيام، في إخماد الاحتقان الشعبي، الذي توسع إلى حد المطالبة برحيله.
وفي بلجيكا، ذكرت مصادر إعلامية أن منظمي احتجاجات “السترات الصفراء” تقدموا بطلب إلى الشرطة للحصول على تصريح بتنظيم مظاهرات في ميدان لوكسمبورغ وسط العاصمة بروكسل. وفي هولندا أيضا، يعتزم ناشطون تنظيم مظاهرات مماثلة ضد سياسات حكومة رئيس الوزراء مارك روته.
وفي الأسابيع الأخيرة، بدأت موجة من الاحتجاجات تضرب عدة دول أوروبية للمطالبة بتحسين ظروف المعيشة، انطلقت من فرنسا وطالت هولندا وبلجيكا وألمانيا واسبانيا وبلغاريا وصربيا والمجر.
المسؤولون الأوروبيون أقروا قبل أيام قليلة في بروكسل إصلاحاً لمنطقة اليورو، لكنه أقل طموحاً من مشروع إعادة الهيكلة النقدية للاتحاد الذي كانت تدعو إليه فرنسا. وإذا كان هذا التقدم يتيح تعزيز النظام المالي الأوروبي، فقد تم استبعاد الأفكار الجريئة مثل تعيين وزير للمال لمنطقة اليورو أو إنشاء “صندوق نقدي أوروبي” على غرار صندوق النقد الدولي.
ويبقى البند الأكثر حساسية في المشروع والذي يرتقب أن تتم الموافقة عليه بعد ظهر اليوم، اتفاق لمواصلة المباحثات بهدف إحداث موازنة لمنطقة اليورو. وقد أطلقت عليه تسمية “أداة مالية” لتبديد القلق لدى الدول الأكثر ترددا وفي مقدمها هولندا.
هذه الإجراءات هي ثمرة 18 شهرا من المناقشات بين وزراء المال في منطقة اليورو، وتم التوصل إليها في ضوء تسوية بعد ساعات طويلة من مناقشات أخيرة جرت الأسبوع الفائت.
ورحب الرئيس الفرنسي الذي أضعفته احتجاجات “السترات الصفراء” وما تخللها من أعمال عنف، الخميس بتقدم رمزي في اتجاه أوروبا أكثر توحدا، مؤكدا أن فرنسا خاضت “نضالا صعبا”.
وأضاف لدى وصوله إلى بروكسل أن “ما توصلنا إليه سيشكل تقدما فعليا على الصعيد المصرفي والمالي وعلى صعيد الموازنة في منطقة اليورو، (ما يعني) منطقة لليورو أكثر توحدا”.
ونص مشروع توصيات للقمة حصلت عليه “فرانس برس” على إدراج موازنة محتملة لمنطقة اليورو في إطار موازنة الاتحاد الأوروبي، على أن يتم تحديد حجمها لاحقا. والغاية منها تسهيل الانسجام بين الدول الـ19 التي تعتمد العملة الموحدة.
ويبقى المشروع بعيدا عما طرحه ماكرون الذي كان يأمل بموازنة خاصة في منطقة اليورو بعشرات مليارات اليورو، مع استخدامها أداة لإرساء الاستقرار عبر مساعدة الدول التي تتعرض لصدمات اقتصادية.
وقال مصدر حكومي ألماني “حتى الأمس القريب، كانت مجموعة من الدول لا تزال ترفض هذه الفكرة بشدة. إذا توصلنا إلى اتفاق بين رؤساء الحكومات للعمل منذ الآن، فتلك ستكون خطوة كبيرة إلى الأمام”.
وعليه، سيتم تزويد هذه الآلية سلطات جديدة لتقييم الوضع الاقتصادي لدول منطقة اليورو، بالتعاون مع المفوضية. وستصبح أيضا بمثابة جهة دائنة في نهاية المطاف للمصارف التي تواجه صعوبات كبرى.
وكانت فرنسا وألمانيا قد وافقتا على غالبية هذه الإصلاحات، وخصوصا أنهما تمثلان نحو نصف الحجم الاقتصادي لمنطقة اليورو. لكن العملية شهدت تباطؤا بعد ذلك بسبب ما واجهته الحكومة الألمانية من عوامل إضعاف واستياء دول أوروبية صغيرة في مقدمها هولندا. وتخشى هذه الدول ان تملي القوى الكبرى في الكتلة مستقبل الاتحاد الأوروبي.
هذه المخاوف دفعت الدول المذكورة إلى توحيد موقفها ضمن كتلة متراصة وبينها دول البلطيق وفنلندا وايرلندا. ورغم أنها تعادل معا إجمالي الناتج المحلي لفرنسا وحدها، فإن نفوذها تنامى في الأشهر الأخيرة بدعم غير معلن من برلين.
ويبقى السؤال قائما، هل ستنجح هذه الجهود الأوروبية في احتواء وضع الأجور المتردي في كثير من دول أوروبا أم أن حلاوة النصر قد تدفع باحتجاجات أخرى ضد الغلاء المتصاعد الذي بات يهدد لقمة العيش لكثير من الأوروبيين؟