روما: الجميع معا الآن: ففي مظهر نادر للوحدة، إلى حد ما، رحب زعماء الاتحاد الأوروبي في نفس الوقت بانتخاب جو بايدن رئيسا للولايات المتحدة، ربما رغبة في طي صفحة حقبة الرئيس المنتهية ولايته، دونالد ترامب.
لم يصنع ترامب كثيرا من الأصدقاء على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي: فقد صنف الاتحاد الأوروبي “عدوا”، وهلل لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، وقال إن لديه “مشكلة كبيرة مع ألمانيا”، صاحبة أكبر اقتصاد في القارة الأوروبية.
ويوم السبت الماضي، اتصل رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي، شارل ميشيل، بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والزعماء الآخرين في التكتل، من أجل أن يكون هناك “تواصل متزامن” بشأن فوز جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة.
وقالت المستشارة الألمانية في رسالتها: “لا غنى عن الصداقة عبر الأطلسي إذا ما كنا نريد مواجهة التحديات الجسيمة في هذه المرحلة”. وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن أوروبا والولايات المتحدة “أمامهما الكثير ليقوما به من أجل التغلب على التحديات الراهنة. فلنعمل معا”.
ووضع ميشيل قائمة قضايا للتعاون بين الجانبين مستقبلا، وهي تضم “كوفيد-19، والتعددية، والتغير المناخي، والتجارة الدولية”. وتحدث مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، عن “يوم عظيم للولايات المتحدة وأوروبا”، وعن الحاجة إلى “إعادة بناء الشراكة بيننا”.
وحدث إجماع واسع على أنه لا يمكن للأمور إلا أن تتحسن.
وقالت ناتالي توتشي، مدير مركز “آي ايه آي” البحثي في العاصمة الإيطالية روما، والمستشارة الخاصة لبوريل: “صورة (العلاقة الحالية على جانبي الأطلسي) كارثية حقا، ولا أعرف وصفا آخر أطلقه عليها”.
لقد انسحب ترامب، من جانب واحد، من الاتفاقيات الدولية التي يدعمها الاتحاد الأوروبي، مثل اتفاق باريس للمناخ لعام 2015، والاتفاق النووي الذي أبرمته إيران والقوى العالمية في فيينا 2015، كما انسحب من منظمة الصحة العالمية، في خضم جائحة كورونا، وآثار الشكوك بشأن حلف شمال الأطلسي (ناتو).
كما فاجأ الرئيس المنتهية ولايته الاتحاد الأوروبي بانسحابه من معاهدات الحد من التسلح مع روسيا، وأيضا بخطواته الأحادية في منطقة الشرق الأوسط، مثل سحب القوات الأمريكية من سوريا، ونقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس.
ومن المتوقع أن يكون بايدن أكثر مراعاة وتقديرا للحساسيات الأوروبية، فقد كان رئيسا سابقا للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، ونائبا للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما على مدار ولايتين، ويملك خبرة تمتد عقودا في مجال السياسة الخارجية.
وكتب الرئيس الديمقراطي المنتخب في مجلة “فورين آفيرز” أن أجندة السياسة الخارجية الخاصة ببايدن “سوف تضع الولايات المتحدة مجددا على رأس الطاولة، في وضع يسمح لها بالعمل مع الحلفاء والشركاء لحشد العمل الجماعي في وجه التهديدات العالمية”.
وفي خطوات يرجح أنها ستلقى كلها ترحيبا في أوروبا، تعهد بايدن بالتزامات جديدة من جانب الولايات المتحدة إزاء حلف الأطلسي، والعودة إلى نهج التعددية، والرغبة في إعادة فتح باب المفاوضات مع إيران، والانخراط مجددا مع الفلسطينيين، بالإضافة إلى العودة إلى اتفاق باريس بشأن المناخ.
ولكن المحللين في أوروبا لا يتوقعون أن تسير كل الأمور على ما يرام.
ورغم أن أحد مستشاري ترامب، وهو توني بلينكن، تحدث الشهر الماضي عن إنهاء “الحرب التجارية المصطنعة” مع الصين، قالت توتشي إنها تتوقع أن تظل التجارة إحدى نقاط الخلاف مع واشنطن.
وقالت توتشي أيضا إنه في ظل حكم بايدن “أعتقد أن القليل سيبقى من أجندة الحمائية التجارية”، في إطار السياسة الداخلية للولايات المتحدة، مضيفة: “أظهرت نتائج الانتخابات أن نهج ترامب حي ويركل بقوة، وهذا أمر لا يمكن تجاهله”.
وتوقعت أن يمثل اتباع نهج قاس في التعامل مع الصين، إشارة أخرى على استمرار الإدارة الأمريكية المنتهية ولايتها، وهي إشارة سيتعين على أوروبا التعامل معها، وقالت: “وإذا ما كان أمر ما سيحدث، أتوقع أن يكون هذا الأمر رئاسة أكثر تشددا في عهد بايدن”.
وعلى نطاق أوسع، من المتوقع أن يواصل بايدن انسحاب الولايات المتحدة من دور شرطي العالم، فقد تعهد “بإنهاء الحروب في أفغانستان والشرق الأوسط إلى الأبد”، ومثل رؤساء أمريكا السابقين، من المرجح أن يتوقع بايدن تراجع اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة.
وقال “ديفيد أو سوليفان”، وهو سفير سابق للاتحاد الأوروبي لدى واشنطن ورئيس مجلس إدارة “مركز السياسة الأوروبية” (إي بي سي)، ومقره بروكسل: “أمريكا تتغير، وما حدث (في عهد ترامب) ليس من قبيل الصدفة”.
وأضاف “أو سوليفان” في فعالية نظمها المركز يوم الجمعة الماضي: “أنهكت الحروب التي لا نهاية لها، في العراق وفي أفغانستان، جسد السياسة الأمريكية. في ظل الشعور بعبء دفع العالم إلى العمل، سيكون أكثر انفتاحا على الذات… هذه هي أمريكا التي علينا أن نتوقع أن نتعامل معها”.
والنتيجة أنه سيكون على أوروبا أن تتعلم كيف تتحمل مزيدا من المسؤولية في ما يتعلق بها من شؤون الأمن والدفاع، وخفض مقدار اعتمادها على القوة العظمى للولايات المتحدة. وقال أو سوليفان إنه لن يكون هناك أي “تهاون” حيال ذلك.
وقال أيضا: “سنكون على خطأ تماما إذا ما اعتقدنا أن كل شيء سيعود، بطريقة أو بأخرى، إلى ما كان عليه الحال”، مضيفا: “أين نجد هذا العصر الذهبي؟ أعتقد حقا أنه يجب علينا العودة إلى القرن الماضي… ولذلك لن تكون هناك عودة”.
وأصابت ميركل نقطة مماثلة عندما قالت لصحيفة “الفاينانشيال تايمز” البريطانية في كانون الثاني/يناير الماضي: “يتعين على أوروبا أن تصنع دورها الجيوسياسي الخاص بها، و تركيز أمريكا على أوروبا، في تراجع. سيكون الحال هكذا مع أي رئيس”.
(د ب أ)