لماذا يكرّر الإنسان أخطاءه؟ رغم يقينه أن ما يقوم به قد يؤدّي للنتيجة نفسها؟ لماذا يذهب تلقائيا إلى تكرار نفسه؟ والوقوع في الحفرة ذاتها؟ هل هو ضحية عادات اكتسبها؟ أم أنه يشعر بالخوف أمام مغامرة التغيير، فيسلك المسالك نفسها دون وعي منه؟ أو ربّما لأنه لا يأخذ الوقت الكافي لتحليل أفعاله وفهم العواقب والتفكير في بدائل ملائمة؟
وفق سيجموند فرويد فإنّ تكرار الأخطاء نفسها يعود لمجموعة من الأفكار والمشاعر التي تسكن اللاوعي. وقد طوّر كارل غوستاف يونغ تلميذه هذه النظرية وتحدّث عنها في كتابه «الإنسان يكتشف ذاته»، إذ يكشف مفهوم اللاوعي الجماعي وكيف يمكن للنماذج البدائية أن تؤثّر في سلوك الإنسان وتؤدي به إلى تكرار الأخطاء نفسها، خاصة ما يتعلّق بعلاقاته، وتحديدا علاقاته العاطفية، بسبب ما تعرّض له من تخويف، وقلق وغضب، وهي كلها عوامل تؤثّر في قدرته على التّعلُّم من التجارب السابقة. وتأتي المعتقدات هنا والضغط الاجتماعي أو البيئي في قائمة المؤثرات التي تقنع الشخص منذ صغره أنّه فاشل وغير قادر على التغيير، فيقوم بتخريب نفسه دون وعي مكرّرا الأخطاء نفسها لتعزيز معتقداته المقيِّدة له.
نعم كل فرد يمثِّل نفسه، لكن الإنسان مخلوق من الطينة نفسها، لهذا فإنّ عملية التكرار مرتبطة بشكل مباشر بجوانب نفسية وعاطفية ومعرفية واجتماعية. وفي هذا الشأن نقرأ ما قاله أستاذ علم النفس وعالم الأعصاب البرتغالي الأمريكي أنطونيو داماسيو في كتابه «خطأ ديكارت: سبب العواطف» إنّ الأخطاء يمكن أن تحدث عندما نتجاهل، أو نقمع استجابتنا العاطفية. في هذا الكتاب الممتع يخاطب داماسيو المتعبين من أخطائهم، مذكِّرا إيّاهم بأن الإنسان كونه عقلانيا لا يعني أنه معزول عن مشاعره. «فالدّماغ الذي يفكّر ويحسب ويقرّر، هو نفسه الذي يحب ويختبر اللذة والاستياء». إنّه ضد أولئك الذين يرغبون في تقليص أداء العقل البشري إلى أداة باردة شبيهة بحاسوب عملاق! من هذا الباب يدخل الكاتب الكندي مالكوم جلادويل إلى استكشاف قوى الحدس، وتحويل الأخطاء إلى نجاحات، هذا الكاتب الذي لمع نجمه بكتاباته ولقاءاته مع جمهور عريض، يشرح لنا كيف يمكن لغرائزنا أن ترشدنا بشكل صحيح، لكنّها قد تقودنا إلى تكرار الأخطاء، إذا لم نفحصها بشكل نقدي. في كتابه الصادر عام 2004 يحلّل مالكوم ظاهرة الحدس ويهزُّ الأفكار السائدة، بحيث أوضح أن الحدس المُستخدَم بشكل صحيح، أو ما يسميه هو «الذكاء الفوري» غالبا ما يكون مستشارا أفضل من الدراسات والأبحاث طويلة القائمة على تجارب وأرقام وخلاصات. يصدمنا مالكوم حين يقول إن ذوي الذكاء العالي أكثر الناس فشلا في اتخاذ القرارات الصائبة في حياتهم الخاصة، وهم في الغالب يقفون في ذهول تام أمام أشخاص أقل ذكاء، وأكثر نجاحا في اتخاذ أفضل القرارات التي يستحيل تفسيرها غالبا. ويتكئ في أطروحته هذه على نماذج كثيرة، تجعل من صاحب عمل ناجح لا يخطئ بشأن موظّف فاشل خلال مقابلة لا تدوم أكثر من خمس دقائق، رغم سيرته الذاتية الغنية، أو من المدرّب الذي يرى الخطأ من لاعب من لاعبيه في مباراة قبل ارتكابه بلحظات، أو من هاوي لوحات تشكيلية حين يكتشف المزيف من الأصلي بنظرة!
يعجُّ الكتاب – الذي بيع منه 1.5 مليون نسخة في الولايات المتحدة، وتمت ترجمته إلى ثلاثين لغة، وتربّع على عرش المبيعات عام 2005 ـ بقصص عجيبة، جعلته أهم من كتب علماء النّفس والمختصين في الأمراض العقلية والأعصاب. الاعتقاد الشائع بأنّ الانطباع الأول غالبا ما يكون صحيحا، قد يكون صائبا في مواقف قليلة، لأنه في الغالب يقوم على أحكام مسبقة حسب مظهر الشخص الخارجي، أو نبرة صوته، ولغة جسده، أو رأي أحد المقربين منا فيه، وهو رأي مؤثّر قد يوجهنا للبحث عن معلومات تؤكّد ذلك، فنشعر أن انطباعنا الأول كان صحيحا، حيث اخترنا المعلومات التي تدعمه بشكل تلقائي. من المُلاَحظ أن الحدس قد يكون مضلّلاً، وهذا ما يقود الشخص أحيانا لتكرار الأخطاء نفسها، وهو في حالة خضوع تامّة للاوعي، لفهم مشكلته الأولى التي أدخلته في تلك الدّائرة المظلمة، أو لنقل إنّها محاولة أخرى لفهم نفسه، وإعادة بناء الجريمة النفسية التي ارتُكِبت في حقه لفهم عذاباته المتكرّرة، وعادة ما تكون حدثت في طفولته.
نكتشف معا مصطلح «الطفل الدّاخلي» وهو ما يشير إلى الجزء المختبئ في أنفسنا، والذي يحتفظ بالذكريات والعواطف والتجارب من أيام طفولتنا. إذ يمثّل كياننا الداخلي الضعيف، الذي يرتبط ببراءتنا وعفويتنا وقدرتنا على الشعور والتعبير عن مشاعرنا الحقيقية. هذا الطفل الدّاخلي جزء مهمّ من تطوّرنا النفسي، لأنه ذاكرة كاملة لتجارب الطفولة الإيجابية والسلبية، التي يمكن أن تستمر في التأثير في أفكارنا وعواطفنا وسلوكياتنا حتى ما بعد مرحلة البلوغ. علاج الطفل الدّاخلي من صدماته هو العلاج الذي يريحنا حين ندخل الدائرة المظلمة سالفة الذِّكر، وهو يسبق كل أنواع العلاج التي تعتمد الفن، والرياضة، والرياضة الروحية والصلاة وغيرها. من المهم التأكيد أن مفهوم الطفل الداخلي ليس حرفيا، لكنه رمزي، إنّه يمثِّل البعد العاطفي لنا ولوجودنا، واستكشافه يمكن أن يساهم في إشباعنا العاطفي وتنمية شخصيتنا.
تناولت كتبٌ كثيرة هذا الموضوع بشكل جدّي لتخطّيه كمعضلة تعيق تقدّم المرء في حياته حين يبقى عالقا في شباك ماضيه، وتكرار أخطائه، لكن من المؤسف أن هذا النوع من الكتب لا يُعطى أهمية عندنا. ولعلّ السرّ في تلك العناوين التي تبدو باهتة وليست بحجم المشكلة وثقلها، مثل كتاب «العادات السبع للأشخاص ذوي الكفاءة العالية» لمؤلِّفه ستيفن آر كوفي، شعبية الكتاب فاقت التوقعات إنه أكثر الكتب مبيعا في الولايات المتحدة وفي العالم أجمع، وفيه مبادئ التطوير الشخصي لتحسين كفاءتنا وقدرتنا على اتخاذ قرارات جيدة، أمّا ما يميز الكتاب فهو النصائح العمليّة لتحديد أنماط السلوك السلبي وتغييرها. في زمنه تألّق ستيفن آر كوفي في مسار حياته الدراسي كله، تخرج من جامعة هارفرد، ونجح كرجل أعمال، وربّ أسرة كبيرة تكونت من تسعة أبناء وتسعة وأربعين حفيدا، ترك لهم امبراطورية مالية مع دليل ممتاز للإبقاء على نجاحها، خاصة آخر كتبه «العادة الثامنة» الذي يعتبر إضافة مهمة لسابقه، في مجاراته للتطورات التكنولوجية في العالم.
لا يمكن للإنسان تفادي ارتكاب الأخطاء، فهي جزء لا يتجزّأ من عملية التعلُّم والنمو، لكن هذا لا يعني أن نعيش في حلقة مفرغة من التكرار الممل لأخطائنا، اليقظة واجبة والوعي مهم لتجنب تكرار الوقوع في دورات من العادات السّامة التي لا تنتهي. وإذا كانت حياته تتكوّن من حلقة من العادات الأساسية التي تتحكّم في تصرّفاته فيكفي أن يغيّر عنصرا واحدا لكسر الحلقة. العادات هي أسوأ ما يمكن أن يستسلم له المرء في حياته. هذا النوع من الكتب المهتمة بتجنب الأخطاء وتطوير الذات يطلق عليها «كتب التنمية البشرية» وهي تملأ رفوف المكتبات بلغات عديدة، والمشكلة لا تكمن في الاقبال على قراءتها، بل في تطبيق ما يرِد فيها من نصائح.
قد اقترح كتابا بعنوان «التفكير السريع والبطيء» لكن هل سيجذب قارئ المواد الثقافية الدّسمة؟ لا أعتقد، إلاّ إذا أضفت أن الكتاب لدانيال كانيمان الحائز جائزة نوبل، وأنّه يشرح بإسهاب كيف يعمل عقلنا باستخدام نظامين: نظام سريع وبديهي، ونظام أبطأ وأكثر تركيزا. وهنا يكمن السر الحقيقي في اتخاذ قرارات صائبة أحيانا، تنحو نحو التغيير، وأحيانا أخرى يتعثّر بعقبات قديمة لأنها مألوفة. من المفيد تنويع قراءاتنا ومواكبة أحدث الكتب حول التنمية البشرية وعلم النّفس وتحسين الذّات. صحيح قد يختلف صدى الكتب المختلفة حسب احتياجاتنا وتفضيلاتنا، لكن من المهم جدا العثور على الكتب التي تتحدّث إلينا أكثر من غيرها، وتقديم نصائح عملية لتجنُّب تكرار الأخطاء نفسها. لقد تأخّرنا كثيرا لنغيّر نظرتنا تجاه هذه الكتب!
شاعرة واعلامية من البحرين