هل عاد وهم الشرق الأوسط الجديد ووعود الازدهار والتعاون بثمن دفن القضية الفلسطينية؟

إبراهيم درويش
حجم الخط
0

تسويق صورة ترامب: رجل حكيم ويعقد الصفقات

وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اتفاقيات إبراهيم التي وقعتها دولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين مع إسرائيل بأنها “فجر جديد للشرق الأوسط” وبات يروج لإنجازه الوحيد في السياسة الخارجية وأصبح جزءا من الدعاية الانتخابية له.

ورغم أن الأمريكيين لا يهتمون عادة في موسم الانتخابات بقضايا السياسة الخارجية، إلا أن حملة ترامب تحاول أن تجعل اتفاقيات التطبيع جزءا من السرد الانتخابي، على الأقل للقواعد التي تدعم إسرائيل واتخذت قرارها بدعم إعادة انتخابه حتى قبل إعلانات التطبيع الأخيرة. ويتفق الجميع على أن ما وقع عليه الأطراف كانت صيغا غامضة وحفلة نظمها ترامب للتلفزيون فقط، كما أشارت مجلة “تايم” (15/9/2020) حيث قدم القادة الإسرائيليون وقادة دول خليجية الذين أمسكوا بيدي ترامب في حديقة البيت الأبيض الجنوبية الصورة التي تحتاجها حملته الانتخابية قبل سبعة أسابيع من الانتخابات.

 وقالت المجلة إن البيت الأبيض يحاول تسويق هاتين الاتفاقيتين على أنهما صورة ترامب الحقيقية: رجل حكيم ويعقد الصفقات، وليس قوة شاذة في العلاقات الدولية. وتعلن حملته أنه مرشح لجائزة نوبل للسلام حيث كان هناك خطأ في كتابة كلمة نوبل. وقالت إن هناك عيبا قاتلا في هذه المناورة التلفزيونية: وهي أن صفقات السلام ليست هي ما يحفز الناخبين، حيث تظهر الاستطلاعات دائما أن السياسة الخارجية قضية ولكنها ليست قضية مهمة. ووجد استطلاع رأي في أوائل آب/أغسطس أن الاقتصاد والصحة والمحكمة العليا وتفشي فيروس كورونا والجريمة العنيفة كلها قضايا تهم الناخب أكثر من السياسة الخارجية. وعادة ما يتفوق الجمهوريون في المواضيع المتعلقة بالسياسة الخارجية ولكن المرشح الديمقراطي، جو بايدين، وهو نائب رئيس سابق ورئيس لجنة الشيوخ للعلاقات الخارجية يتساوى مع ترامب في هذا الجانب.

ليست سلاما

واعترض المحللون على تسمية اتفاقية إبراهيم باتفاقيات سلام لأنها عادة ما تكون بين دول متحاربة، ولكن صهر الرئيس جاريد كوشنر كان عصبيا عندما رفض تعليقا في “سي أن أن” رفض استخدام وصف السلام وخرج من المقابلة. وبالتأكيد يرى المعلقون أن الطرف الحقيقي الغائب، الخاسر كما وصف هنا، وهم الفلسطينيون من يحتاجون السلام. ورفضوا مبادرة ترامب التي أشرف عليها جاريد كوشنر وصممها بناء على رغبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وسفيره في واشنطن رون ديرمر. والغريب أن نتنياهو رفض الخطة التي وافق عليها مع كوشنر. ومن هنا جاءت لعبة الضم والضغط الإماراتي المزعوم على نتنياهو. وكما يقول توماس فريدمان في “نيويورك تايمز” (15/9/2020) فاتفاقية إبراهيم أنهت حل الدولتين والمرحلة الدولية من العملية السلمية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وأصبحت القضية الفلسطينية مسألة داخلية إسرائيلية، تترك 2.5 مليون فلسطيني في الضفة تحت الإحتلال الإسرائيلي بدون أمل. وهذا هو ارث نتنياهو الحقيقي وبالضرورة ترامب. فحديثه من سنوات عن علاقات عربية تحت الطاولة وزيارات سرية متبادلة بين دول عربية لم يسمها وكان الجميع يعرفها، السعودية والإمارات والبحرين. وعمليات التطبيع الأولية من الرحلات الجوية لطيران الاتحاد الإماراتية المباشرة بين أبو ظبي وتل أبيب ومقالات إماراتيين منهم سعوديون في الصحف الإسرائيلية كانت كلها عمليات مرتبة لفحص الأجواء بشأن رد “الشارع العربي”. والجميع يعرف أن هذا الشارع العربي أخرس ولم يعد قادرا على الحديث ومراقب وتتم معاقبة من ينشر تغريدة مخالفة للخطأ الرسمي. وأشارت مجلة “إيكونوميست” (19/9/2020) إلى أكاديمي إماراتي معروف بانتقاداته الشديدة لإسرائيل ونشر “إيموجي يبكي” بعد توقيع بلاده اتفاقية التطبيع ولكنه عاد والتزم بالخط الرسمي للحكومة وهي ضرورة دعم الإتفاق مع إسرائيل.

قصة البحرين

ولاحظت المجلة أن ولي عهد أبو ظبي يمكنه اتخاذ قرار بالتحالف مع إسرائيل دون ردة فعل من شعبه، إن أخذنا بعين الإعتبار المساحة الصغيرة للنقد المتوفرة، لكن البحرين التي تعجلت باللحاق في سرب المطبعين وكانت قبل أسبوع من حفلة التطبيع تؤكد التزامها بالمبادرة العربية فاجأت بقرارها إدارة ترامب التي حاولت ضمها في اللحظة الأخيرة للحفلة.  وعلى خلاف الإمارات تعيش في البحرين طائفة شيعية كبيرة ولديها مساحة للتعبير عن النقد والرفض، مع أن قادتها يخاطرون بالاعتقال لو انتقدوا التطبيع. وكانت هناك حملات واسعة قبل توقيع الاتفاقية على منصات التواصل الاجتماعي في البحرين لرفض التصالح مع إسرائيل. واتفق الجميع على أن القرار البحريني لم يتخذ بدون إيماءة سعودية، خاصة أن المنامة تعتمد على الرياض بشكل كامل منذ انتفاضة ميدان اللؤلؤة عام 2011. ومن هنا تقول “إيكونوميست” إن السعودية ستراقب ردة الفعل الشعبي في البحرين، وسيكون القرار البحريني بمثابة بالون اختبار، خاصة أن ترامب لم يتوقف عن ذكر الدول العربية المرشحة للتطبيع، ومنها السعودية. فترامب يدفع هذه الدول باتجاه فك عزلة إسرائيل العربية والاعتراف بها ملوحا بالمنافع الاقتصادية التي لم تنفع مع الفلسطينيين عندما عرض عليهم 50 مليار دولار مقابل التخلي عن كل شيء. فمع السودان ربط رفع اسمها عن قائمة الدول الراعية للإرهاب باتصال هاتفي مع نتنياهو. ومع الإمارات وعدها بمقاتلات أف-35 وطائرات مسيرة بريتدور رغم معرفته ان الكونغرس غاضب على أبو ظبي بسبب اليمن. وبالنسبة للسعودية فقد أكد ترامب في مقابلة مع “فوكس نيوز” معلقا على كتاب الصحافي بوب وودورد أنه هو الذي أنقذ ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بعد جريمة قتل وتقطيع الصحافي المعروف جمال خاشقجي “أنا من حميت مؤخرته” قال ترامب. ومن هنا قد يجد محمد بن سلمان فرصة لإصلاح سمعته التي انهارت عالميا وخسر الدعم التقليدي في واشنطن، حيث يجد معارضة قوية داخل الكابيتال هيل.

خلاف

ولا يزال الكونغرس غاضبا على إدارة ترامب التي رفضت التعاون بالتحقيق وتسترت على بن سلمان. وربما كان التطبيع فرصة لتحسين صورته. لكن الملك سلمان بن عبد العزيز متمسك بالموقف العربي التقليدي، وهو الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة مقابل التطبيع. وكشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” (18/9/2020) أن الملك غضب عندما سمع عن اتفاقيات التطبيع الأخيرة والتي لم تذكر اسم الفلسطينيين، ذلك أن الأمير محمد أخفى ما جرى عنه. وأمر وزير خارجيته أن يؤكد الموقف التقليدي من التعاون مع إسرائيل. وقال تركي الفيصل، وزير الخارجية السابق إن على من يريد التطبيع مع إسرائيل أن يطالب بثمن كبير مقابل السلام. وبالمقابل أظهر محمد بن سلمان انفتاحا للتعامل مع إسرائيل. ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أجانب ومستشارين قولهم إنه أعرب عن أمله بمشاركة شركات تكنولوجية إسرائيلية بتطوير وبناء مدينة المستقبل التي رصد لها 500 مليار دولار “نيوم”. وقالت الصحيفة إن جاريد كوشنر، زار السعودية في الأول من أيلول/سبتمبر وضغط على محمد بن سلمان للتطبيع ورفض الأخير قائلا إن كل ما يمكن للرياض عمله هو دفع المملكة الصغيرة البحرين المشاركة في حفلة التطبيع. وما قدمه محمد بن سلمان كان الموافقة على فتح الأجواء السعودية للطيران الإسرائيلي. وهناك محللون قالوا إن السعودية لن تتعجل التطبيع بل وستدفع دولا أخرى لإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل خاصة تلك التي تعتمد عليها مثل السودان وتقيم علاقات قوية معها مثل المغرب. والمملكة واعية بمخاطر التطبيع على موقعها في العالم الإسلامي والنقد الذي ستتعرض له من أعدائها في إيران ومنافستها تركيا، التي كانت في مقدمة الدول التي انتقدت الدول الخليجية التي تتسابق على التطبيع.

بدون ثمن

يتفاخر نتنياهو أنه حصل على “سلام مقابل سلام” والحقيقة لم يعرف أحد ما هي محتويات الاتفاقيات التي وقع عليها ممثلو كل من الإمارات والبحرين، فلم تصدر الإدارة إلا تفاصيل غامضة عن الاتفاق الدبلوماسي ولم يذكر فيه الفلسطينيون أبدا. ومن حركة جسد وزير خارجية الإمارات الذي بدا أنه لا يعرف عما يوقع واكتفى برسم غريب “توقيعه” على اتفاقية حملت توقيع ترامب ونتنياهو. وبدا بن زايد ووزير خارجية البحرين مثل ممثلين ثانويين في مسرحية، فالبطل هو ترامب والقصة التي كان يحرص عليها هي تصويره لقاعدته الإنجيلية أنه صانع سلام. وليس غريبا أن يضخ ملك الكازينو اليهودي الأمريكي شيلدون إدلسون 50 مليون دولار في حملة ترامب الانتخابية بعد التوقيع. والمهم في الأمر هو أن الإمارات تحاول تصوير مبادرتها للتطبيع على أنها زواج بين دولتين تكنولوجيتين ومنفتحتين على العلم. ونقل المعلق ديفيد إغناطيوس في صحيفة “واشنطن بوست”(17/9/2020) عن مسؤول إماراتي قوله “ما نحاول قوله، كفى كل هذا الهراء الأيديولوجي، ونريد التركيز على المستقبل وعلى العلم والتكنولوجيا وشريك تجاري مع الجميع”. فيما قال أنور قرقاش، وزير الدولة للشؤون الخارجية “سياسة المقعد الفارغ لم تخدم الفلسطينيين ولا العرب جيدا” في إشارة لقرار بلاده التحاور مع إسرائيل وتحقيق مكاسب منها وحماية حل الدولتين التي تعرف الإمارات أن مسيرة نتنياهو السياسية قامت على رفض قيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. وذكرت مجلة “إيكونوميست” قرقاش بالقول إن التاريخ يعلمنا أن امتلاك ورقة نفوذ في المفاوضات لا يعني شيئا لإسرائيل، فقد وقعت مصر والأردن معاهدات سلام مع إسرائيل قبل عقود ولم تنجح أي منهما بتقريب حل الدولتين. بل ولم تذكر المعاهدة التي وقعتها إسرائيل مع الإمارات والبحرين منظور حل الدولتين، فقط عبارة غامضة عن حل “عادل”. وفي الجامعة العربية التي ينشد فيها الديكتاتوريون أناشيد القضية الفلسطينية رفضت بيانا يشجب الخطوة الإماراتية والبحرينية. وما جرى خلال العقود الماضية محاولات دفن القضية الفلسطينية وتغليب المصالح الشخصية. فلم تدخل أي دولة عربية حربا ضد إسرائيل منذ أربعة عقود. ومن الصعب معرفة شعور العرب في ظل التغييب المستمر بل والشيطنة لكل ما هو فلسطيني. في ظل انشغال الدول العربية بمشاكلها اليومية والحروب الأهلية انحرف الاهتمام بالقضية الفلسطينية لكن هذا لا يعني غياب التعاطف مع الفلسطينيين. وفي مبالغات ترامب  فهناك خمس دول عربية تنتظر في الغرفة الجانبية للخروج وإعلان التطبيع، وحتى لو أعلنت دول أخرى عن  علاقات دبلوماسية فستزداد عزلة الفلسطينيين، وهذا لن يدفعهم إلى التخلي عن مطالبهم. وما تعنيه كل هذه المحاولات والحفلات التطبيعية أن الواجهة العربية للنزاع سقطت وما برز خلفها هو نزاع بين شعبين ينتظر الحل. فالفلسطينيون “الخاسرون” في المعادلة العربية لم يختفوا بعد ورفضوا بعناد خطة ترامب وصهره كوشنر الذي بحث عن انتصارات مع دول الخليج والتي أخرجته من ورطته وحولته من سياسي فاشل، أي كوشنر، إلى دبلوماسي عريق.

شرق أوسط جديد

وفي لعبة التسويق للمبادرات الدبلوماسية جرى الحديث عن الفرص الاقتصادية والتكنولوجية والأمنية والسياحة التي ستتبع اتفاقيات التطبيع. وفي الإمارات هناك أخبار عن اتفاقيات بنوك وشركات تكنولوجية للشراكة في مجال المال والتجارة وكوشير. وهو نفس ما سمعناه عن “الشرق الأوسط الجديد” الذي تحدث عنه شمعون بيرس في كتابه الذي أصدره بعد أوسلو  1993. وعندما وقع الأردن معاهدة وادي عربة وعد باتفاقيات تجارية ومنطقة حرة وغير ذلك. ولم يتبلور أي شيء ذا معنى خلال العقدين. ولكن المعلقين والمبررين يقولون إن الوضع مختلف، فهاتان الدولتان كانتا في حالة حرب مقارنة مع علاقة الحب والغزل الطويلة بين دول الخليج وإسرائيل. وفي صحيفة “فايننشال تايمز” (15/9/2020) نشرت تقريرا قالت فيه إن إسرائيل تتوقع عقودا تجارية ومالية مع البحرين والإمارات بـ 500 مليون دولار وربما زادت إلى المليارات. ويتم الحديث عن الصفقات التجارية من خلال الإشارة إلى الشرق الأوسط المتغير الذي باتت فيه الديناميات المحلية والإقليمية تظهر وتملأ الفراغ الأمريكي، في ظل دعوات ترامب الخروج من الحروب اللانهائية. ففي جدول الرابحين والخاسرين في الشرق الأوسط الجديد أشار إغناطيوس إلى الإمارات وتركيا التي بات المحور الإماراتي يصورها على أنها عدو أهم من إيران التي يمكن احتواءها. وهذا نابع من انتصار تركيا، فهي موجودة في حلب ومقديشو وطرابلس ومتحالفة مع قطر. وخرجت السعودية خاسرة في معركة الشرق الأوسط الجديد، بسبب اليمن ومقتل خاشقجي. ولم تعد المملكة مؤثرة في المنطقة اليوم وأكثر مما كانت عليه قبل جيل. وتحت ظل ولي العهد محمد بن سلمان، لم يخسر السعوديون شعبيتهم في واشنطن بل وعانوا من نكسات في اليمن ولبنان وسوريا وباكستان والدول الأخرى التي كانت أيديولوجيتهم وأموالهم قوة مركبة أو سامة. وفي ظل الصورة التي تشكلت أصبحنا نسمع النصائح للفلسطينيين كما حاول دينس روس في “واشنطن بوست” (13/9/2020) حيث طالبهم بتغيير سلوكهم والقبول بالواقع واللحاق بالإمارات والدول الأخرى التي أقامت علاقات مع إسرائيل. وهذا الكلام ينسحب كما يقول على مؤيدي القضية. ولم يذكر روس أن القيادة الفلسطينية تمسكت ولأكثر من عقدين بوهم السلام وحصلت على السراب، ويريدها الآن بقبول الأمر الواقع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية