لعل ما يزيد من صعوبة البحث في أسباب شيوع ظاهرة شعرية، ما تعلق الأمر بالشعر العربي قديما وحديثا أن النظامين: نظام العمود (النظرية) ونظام المحدث يتواصلان فيه جنبا إلى جنب، فلا الأول انقطع بذيوع الثاني، ولا الثاني حل محل الأول، بل الأصوب أن نقول إن هذا كان وَصيل ذاك. فقد كانا مترافقين لا يكادان يتفارقان إلا في الندرة من القصائد التي تباين القديم في أخيلته ومعانيه، وإن على نسب تتفاوت ومقادير تتفاضل؛ بل إن القاعدة في المحدث إنما هي في الحفاظ على التقليد وخرقه في آن.
ومن هذا الجانب أيضا كان مأتى «تغريب المألوف» في الشعر، وما أفضى إليه ذلك من تغليب الوظيفة الجمالية على ما سواها أو جعلها العنصر السائد، قياسا بالوظيفة المرجعية المنوطة بمحتوى الخطاب والواقع الذي يحيل عليه، حيث الإرادة في الإخبار والإفهام هي الدلالة الغالبة. وعلى أساس من هذه المشابهة، أرسلوا مقولاتهم في القرب والمناسبة أحكاما مقطوعا بها في حد الاستعارة وشروط إجرائها، حتى أننا قلما نظفر عندهم بنظرة إلى الاستعارة، حرة طليقة من قيد التشبيه، وهو الذي كان على ما نعرف من تغلغله في صميم شعرهم القديم وسائر أنماط كلامهم. غير أن المشكل في المحدث لم ينحصر في هذه الاستعارات البعيدة، وإنما في ما استغلق منها؛ الأمر الذي يحول دون تسليمنا بسهولة، بأن مواقفهم من هذه الاستعارات مشتقة كلها من نظرتهم إلى التشبيه ومن الوظائف التي علقوها به سواء أكانت إفهامية أم إخبارية مرجعية، بل جمالية أيضا ترجع إلى إيقاع الائتلاف بين المختلفات؛ أي «تأليف الغريب» أو ما يمكن أن نسميه «جمالية المفاجأة».
ومن هذا الجانب فإن القضية أبعد من أن تفسر بطغيان وظيفة على أخرى، فثمة في كل هذه النصوص مراوحة لا تخفى بين ماهو «جمالي» وما هو «مرجعي». وليس لنا ان نستثني من ذلك شعراء الحداثة المعروفين بأجيالهم الثلاثة بدءا بشعراء المدرسة العراقية من أمثال السياب والبياتي ونازك والحيدري وسعدي يوسف ويوسف الصائغ وسامي مهدي والعلاق… فشعراء الشام وفلسطين من أمثال أدونيس ودرويش والماغوظ وشوقي بغدادي وأنسي الحاج، فالأقرب إلينا مثل نزيه أبوعفش وشوقي بزيع ومحمد علي شمس الدين وأحمد دحبور وغسان زقطان وليانة بدر.. فشعراء مصر من أمثال حجازي وصلاح عبد الصبور وعفيفي مطر وأمل دنقل… فشعراء المغرب العربي من أمثال محمد بنيس ومحمد الغزي وفتحي النصري وحسن نجمي والجيل الجديد: صابر العبسي ورحيم الجماعي وأمامة الزاير وأفراح الجبالي وسنية الفرجاني.. فشعراء الخليج من أمثال قاسم حداد وعلي الدميني وسيف الرحبي.. وغير هؤلاء من الذين أداروا قصائدهم على أساس من الوظيفتين الجمالية والمرجعية، حيث تتحدد الصورة الشعرية، وهو ما يعيدنا إلى الدرس البلاغي القديم حيث يحد المجاز بطرفين هما الحقيقة والخيال أو «الاختلاق الإمكاني» بعبارة أدق؛ وحيث الانتقال من الطرف الأول إلى الثاني لم يكن إلا انتقالا من مرجعي إلى جمالي، إما لتأكيد الأول وإبرازه وإخراجه غير مُخْرَجِ العادة، أو لذلك كله معا؛ ولكن في اعتدال وتلطف، حتى تحتفظ الصورة بقدرتها على التمثيل والتبليغ، أو ما نسميه «شفافية التوصيل». وهي بذلك لا تعدو كونها مظهرا للقول والذهاب رأسا إلى المعنى بعناء أو من دونه. وقد يَتبهمُ المعنى عند بعضهم أكثر مما يتوضح، وقد تستوقفنا الصورة، وقد لا نعرف كيف صب الشاعر معناها في ذلك القالب من الكَلِم واللغة والإيقاع. ولكننا سواء نهجنا هذا النهج أو ذاك، أو قررنا أن الصورة من صنع القراءة أو «التناص» أو «الطبع» بعبارة القدماء، أو هي من قوة الصناعة، فإنها تراوح بين معنى ناجز تام سابق على النص، ومعنى معطى من خارجه، ومعنى مستحدث أو هو فضل معنى.
القضية أبعد من أن تفسر بطغيان وظيفة على أخرى، فثمة في كل هذه النصوص مراوحة لا تخفى بين ماهو «جمالي» وما هو «مرجعي».
وها هنا قد لا يسعفنا الدرس القديم في حد الاستعارة من حيث هي استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة بين المعنى المنقول عنه والمعنى المستعمل فيه مع قرينة صارفة عن إرادة المعنى الأصلي؛ إذ لا يعدو ذلك سوى الإقرار بأن تعبيرا ما لا يمكن نعته بالاستعاري إلا إذا أمكن أن نقابله بشيء ما، أو بـ»معنى» مستعمل يختلف عنه. وبعبارة أوضح فإن إجراء الاستعارة يقتضي إذن شرطا أساسيا «خارجيا» هو ما سموه قديما «الأصل» أو»الحقيقة» أي المادة الواقعية التي لا تستوجب بنية فنية، على حين يستوجب تشكيل البنية الفنية إعادة بناء هذا «الأصل» أو هذه «الحقيقة» على مقتضى القوانين الجمالية؛ ومن أظهرها قانون المشابهة أو حسن المحاكاة. يقول القرطاجني: «وإنما ينبغي أن يمثل حسن المحاكاة في القول بأحسن ما يمكن أن يوجد من ضروب تصاوير الأشياء وتماثيلها، ونظير ذلك من المحاكاة في حسن الاقتران أن يقرن بالشيء الحقيقي في الكلام، ما يجعل مثالا له مما هو شبيه به على جهة من المجاز تمثيلية أو استعارية كقول أبي تمام:
دِمَنٌ طالما التقتْ أدْمعُ ال // مُزنِ عليها وأدْمُع العشاقِ
فحسن اقتران أدمع العشاق وهي حقيقة، بأدمع المزن وهي غير حقيقية.. يجري في حسن موقعه من السمع والنفس مجرى موقع حسن اقتران الدوح الذي له حقيقة بمثاله في الغدير ولا حقيقة له في العين». ويوضح هذا النص ما أثبتناه من أن وظيفة الصورة عند شعرائنا قديما وحديثا، على تفاوتهم، هي نقل المعنى أو تمثيله تمثيلا حسيا أو «قلب السمع بصرا» أي جعل الصوت في خدمة العين. والعبارة تعني، في تقديرنا، أكثر من تمثيل المعنى تمثيلا حسيا؛ ولعل المقصود بها المتعة التي تحصل عن طريق حاستي الٍسمع والإبصار معا. وقد يكون عبد القاهر الجرجاني الأقرب إلينا، إذ يبين أن الصورة يمكن أن ترجع إلى هيئة من شأنها أن تُرى وتُبصر، مثلما يمكن أن تكون بالضد من هذا. يقول : «إن مما يقتضي كون الشيء على الذكر وثبوت صورته في النفس أن يكثر دورانه على العيون، ويدوم تردده في مواقع الأبصار.. ذلك أن العيون هي التي تحفظ صور الأشياء على النفوس…» ولا مسوغ لذلك سوى أن «المسموعات تجري من السمع مجرى المتلونات من العين» بعبارة حازم. وهذه عبارة تبين أن الوظيفة الرئيسية التي ألحقوها بالصورة، سواء كانت تشبيها أو استعارة، وهي إخراج الأغمض إلى الأوضح، وتقريب البعيد، و»شرح ذلك ان ما تقع عليه الحاسة أوضح في الجملة مما لا تقع عليه الحاسة، والمشاهد أوضح من الغائب» محكومة بسلطة الشفوي أكثر منها بسلطة التشبيه؛ فما يلتقط سماعا ويدرك في وقعه لا يستبين إلا إذا ظهر وتكشف في مجلى الرؤية أو البصر. أي أن احتواء الشيء المسموع بحاسة النظر إنما هو احتواؤه بالحس والعلم والفهم وبالتوهم أيضا.
فيكون للصورة ما جرى السمع والبصر في جدلية واحدة، من سيولة الإيقاع أو ماء الشعر بعبارتهم ما يجعلها قادرة على أن تجاري الرؤية في سيولتها؛ فلا الإشارة تنفصل عن الصوت ولا الصوت ينفصل عن الشيء المرئي. والصورة بهذا المعنى لا تعدو كونها ظلا للاشياء، ودليلاعلى واقع شاخص ماثل للعيان، وعلامة على طريقة المعنى. يقول القاضي الجرجاني في الوساطة معقبا على بيت أبي تمام في الهجاء:
أفي تنظم قول الزور والفنَد // وأنت أنزر من لا شيء في العدَدِ
وبيت المتنبي:
وضاقت الأرض حتى كان هاربهمْ // إذا رأى غير شيء ظنه رجُلا
«فقال (المتنبي): قد أجاز هذا أن يكون لاشيء واحدا، وهذا أن يكون معدودا فكيف يحظر علي أن أجعله مرئيا» وانظر تعقيب ابن القطاع : «قد أوخذ [المتنبي] في هذا البيت؛ فقيل كيف يرى غير شيء، وغير شيء معدوم، والمعدوم لا يرى؟ وليس الأمر كما قالوا ؛ بل أراد غير شيء يعبأ به.» وكان الخوارزمي في شرحه أكثرهم فطنة، إذ بين أن رأى في هذا البيت ليست من رؤية العين ؛ وإنما هي من رؤية القلب ؛ يريد به التوهم، وغير الشيء يجوز أن يتوهم.
ولعل برجسون خير من يوضح لنا هذا فـ»الصورة ما هي إلا تعبير رمزي وإيحاء بما لا يمكن التعبير عنه. ومن هنا يمكن القول إن الصور ليست عرضية ؛ وإنما هي مرتبطة ارتباطا عضويا بالرؤية. نعم إن الصور عندما نصبها في القالب العضوي قد تبدو وكأن في إمكانها أن تنفرد بذاتها. ولكن هذا ليس بصحيح ؛ وإنما الصحيح هو أن القالب اللغوي ليس له معنى إلا من خلال تلك العملية الفلسفية الأصلية أعني الرؤية».
كاتب وشاعر تونسي
بادي ذي بدء: أعتبر أنّ العلاقة بين الشعر العموديّ وهو الأصل القارع ؛ وشعرالتفعيلة المحدث ( وهو الفرع الفارع ) كالعلاقة بين النخلة والفسيلة.إنّ النخلة أصلها في السّماء ثابت؛ والفسيلة فرعها في الأرض نابت.ومن كلّ { لينة } نأكل رطبًا جنيًّا.قبل ثلاثة أيام قرأت في ديوانك مزامير العشق الإلهيّ: نفحات من كتاب الزبور للنبيّ داوود.ثمّ رجعت قارئًا لما في نسختي من كتاب الزبور…فرأيت أنّ الشاعر استوحى منه ديوانًا.ألا يستطيع غيره أنْ يستوحي منه عملًا إبداعيًا جديدًا؟ فاللنخلة أكثر من فسيلة؟ فاقترحت على صديق كاتب أنْ يستوحي منه مسرحية { صوفيّة } لتعرض في شهرر مضان القادم.هكذا هوالأصل الفرض ويبقى الفرع نافلة؛ ليثمر من جديد؛ فقط مع إرادة الإنسان سيد الكلمة في الأرض.ولن يغادر ياصاح؛ الشعراء متردم النثرو القرض. إنّ المتردم هو: القول المحكم النسج الصالح من الكلم.ومنه ردم يأجوج ومأجوج المحكم البناء لذي القرنين. وقد قبسه شاعرالأندلس لسان الدّين الخطيب فقال: { أو مــرّ عنترة لم يقل…….هل غادر الشعراء من متـردم }؟
أعجبني وصفك أنّ الشعر العمودي النخلة وشعر التفعيلة الفسيلة..فهو تشبيه دقيق وواقعي.وتبقى النخلة الأصل والفسيلة لها التبعية..فهذه رؤية نقدية حصيفة الصورة..يشرفني التواصل معك أخي الدكتور جمال.
كعادتك د. جمال. أنت تغني المقال بهذا التعقيب. تحياتي وسلامي
الأخ منصف،
في الربط بين شرح الخوارزمي لبيت المتنبي وبين مفهوم بيرغسون عن الصورة، الأول قد يقارب الصواب من خلال رؤية القلب (لا العين) التي يريد بها التوهم (غير الشيء يجوز أن يتوهم). أما بيرغسون، في مفهومه عن الصورة، فلم يقل إن “الصورة ما هي إلا تعبير رمزي وإيحاء بما لا يمكن التعبير عنه”، في هذا السياق تحديدا (كما تقتبس من المصدر غير المذكور). الصورة بالنسبة لبيرغسون، قبل كل شيء، إنما تتبوَّا حيِّزا (وسطيا) بين ما هو مثالي وبين ما هو واقعي. فمن خلال نظريته التي سماها بـ”نظرية الإدراك المحض”، يؤكد بيرغسون بأن صورة الشيء (المادي) تصبح تمثيلا، وأن التمثيل يكمن على الدوام في الصورة كمونا افتراضيا. فالتمثيل، بهذا المعنى بالذات، إن هو إلا “صورة مصغَّرة” أو “صورة مجتزأة” عن الصورة – فلا مجال كما ترى للقول، في هذه القرينة، “إن القالب اللغوي ليس له معنى إلا من خلال عملية الرؤية الفلسفية الأصلية” – وهناك الكثير من التفاصيل الشائكة والعائصة حول هذه الأفكار ليس هذا المكان ملائما للخوض في غمارها – مع التحيات والسلامات