الأيام الاخيرة
ولا تزال قصة الايام الاخيرة لعرفات محيّرة للجميع، فقد بدأت بعد عشاء تناوله في 11 تشرين الاول (اكتوبر) 2004 في الساعة الحادية عشرة والنصف ليلا، شعر عرفات بعدها بعدم الراحة، قام بعدها بالتقيؤ وشعر بالراحة قليلا ونام ليصحو في حالة صحية سيئة. وعندما استدعي الطبيب ظن ان ما يعاني منه الرئيس عرفات التهاب معوي حاد، واعطاه دواء، قال المسؤولون بعدها ان الرئيس عاد لممارسة اعماله العادية في مقر اقامته في المقاطعة.
ومع ان حالته الصحية استقرت لكنها لم تتحسن، مما اثار استغراب فريقه الطبي، وظل الامر حتى قام فريق طبي تونسي بتشخيص الحالة المرضية وقالوا ان عرفات يعاني من انخفاض في عدد الصفائح الدموية ‘ثروموسايتوبنيا’، فالصفائح الدموية مهمة لتخثر الدم وانخفاضها في الجسم يعني حصول نزيف داخلي.
وعليه تم أخذ عينات من نخاعه العظمي للفحص، ومع تدهور حالته الصحية المستمر نقل في طائرة خاصة الى فرنسا لمواصلة العلاج، وفي الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر) 2004 دخل في غيبوبة، ليفارق الحياة في الساعات الاولى من صباح 11 تشرين الثاني (نوفمبر) نتيجة نزيف داخلي في الدماغ عن عمر يناهز الـ 75 عاما. نقل جثمانه بعدها الى رام الله حيث رقد رقدته الاخيرة.
لم يعرف الفلسطينيون ولا عائلته الاسباب الحقيقية التي أدت لوفاته. لكنهم والعالم اقتربوا لحل لغز الوفاة هذا الاسبوع عندما كشف باحثون في معهد لوزان السويسري في دراسة نشرتها مجلة لانسيت الطبية عن ان عرفات قد توفي بمادة مشعة سامة ‘بولينوم- 210’ وعثروا على اثار من هذه المادة المشعة على كوفيته، وملابسه الداخلية وفرشاة اسنانه. وفي المقال الذي حمل عنوان ‘تطوير اساليب الفحص الشرعي للبولينوم السام’، قال الفريق انهم أخذوا عينات من عرق ودم وبول عرفات وجدت على ملابسه ووجدوا انها احتوت على مستويات عالية من مادة البولونيوم- 210 السامة.
وتتوافق المعلومات التي يقدمها الفريق السويسري مع تحقيق اخر توصل الى نفس النتائج نشرت في آيار (مايو) العام الماضي. وعلى الرغم من تأكيد الفريقين الطبيين ان نتائج بحثهما ليست نهائية الا انهما يشيران في المجمل الى ان عرفات قتل.
معارض روسي
قبل ان نتساءل عن طريقة موت عرفات لا بد من الاشارة الى حالة مشابه حدثت في بريطانيا عام 2006. فالأعراض المرضية التي ظهرت على عرفات ومات بسببها هي نفس الاعراض التي قتلت معارضا روسيا عمره 43 عاما نقل الى مستشفى ‘يونيفرستي كوليج’ في لندن، بداية تشرين الثاني (نوفمبر) 2006 بسبب معاناته من مرض غامض، وتوفي بعد 22 يوما.
وهذا الرجل، كان عميلا روسيا سابقا اسمه الكسندر ليفنشكو، وتبين بعد اجراء الفحوص عليه انه مات بسبب تسممه بمادة بولونيوم-210. فهل مات الرئيس الفلسطيني بنفس الطريقة وكيف توصل اليه القتلة؟
الموساد وتاريخ العمليات
هذا السؤال يحاول غاي وللترز الصحافي في الصحيفة اليمينية ‘ديلي ميل’ الاجابة عنه، حيث يقول ان الجهة التي سيشار اليها بإصبع الاتهام هي وحدة الامن والعمليات الخاصة، المعروفة باسم ‘موساد’، فهو وان لا يجادل في قدرة المؤسسة الامنية الاسرائيلية على استخدام ‘الحيل القذرة’ كي تتخلص من أعدائها، وقتل عرفات يقع في مجال اهتمامها، لكن السؤال ماذا ستستفيد المؤسسة واسرائيل من قتل الزعيم الفلسطيني، وهنا يحاول وولترز تحليل عمليات الموساد التي يقول انه يخطط لها بدقة، فمنذ انشائها عام 1949 حظيت بسمعة شبه اسطورية عندما استطاعت خطف أحد قادة النازية ومهندس ما عرف بالحل النهائي عام 1960 من الارجنتين حيث كان يختبيء، ونقل الى اسرائيل ليواجه المحكمة ثم الاعدام. ويقول وولترز ان قادة نازيون اخرون تم التخلص منهم بدون ضوضاء مثلما حدث لهربرت كوكرس من لاتفيا عام 1965 فقد خدعه عميل اسرائيلي اصلع اسمه انتون كونلز الى بيت صغير في العاصمة الاورغواية مونتيفيديو، وعندما دخل كوكرس غرفة الجلوس هجم عليه فريق من الموساد كان ينتظره واطلقوا عليه رصاصتين في الرأس، وتم وضع جثته في صندوق مع ورقة كتب عليها ‘من الذين لن ينسوا ابدا’، وقتل كوكرس لدوره في قتل اليهود في ريغا، عاصمة لاتفيا.
ويضيف وولترز الى بطولات الموساد انتقامها من قتلة الفريق الرياضي الاسرائيلي في ميونيخ عام 1972 في العملية التي اطلقت عليها ‘غضب الرب’ واستمرت العملية لعقدين وقام فيها عملاء الموساد بسلسلة من الملاحقات والاغتيالات لناشطين وقادة فلسطينيين. ويقول وولترز ان كل الملاحقات تم التخطيط لها بعناية وبدقة فيما كانت هناك عمليات سريعة، واخرى معقدة مثل اغتيال ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في باريس، محمود الهمشري حيث تم زرعت الموساد في هاتفه عبوة ناسفة باشارات الكترونية.
وعندما اتصل به عميل موساد تظاهر بانه صحافي، ورفع الهمشري الهاتف للرد، انفجرت العبوة وقتل فيها.
فشل
وبحسب التقارير الامنية فالوحدة التي خططت للعملية داخل الموساد اطلق عليها ‘كيدون’ وكانت هذه الوحدة كانت وراء العملية الفاشلة لاغتيال خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي في حركة حماس، في 25 ايلول (سبتمبر) 1997.
وعلى الرغم من نجاح عميلي الموساد برش مادة في اذني مشعل الا انه تم القبض عليهما في الحال. وذكر الكاتب ان فشل كيدون في هذه العملية نادر، مع انها قامت بسلسلة من العمليات الفاشلة في اوروبا، وكانت اخر عملياتها اغتيال المسؤول في حركة حماس محمود المبحوح في دبي عام 2010 حيث قامت شرطة دبي بنشر صور للجوازات التي استخدمها الفريق والتي ضمت جوازات سفر كندية وبريطانية وامريكية.
ويقول الكاتب ان من اخطر التحديات التي تواجه المخابرات الاسرائيلية هي ملاحقة الخبراء النوويين الايرانيين. ففي كانون الثاني (يناير) 2011 انفجرت قنبلة مغناطيسية في سيارة نائب مدير مفاعل ناتنز الايراني، احمدي روشان، وقتلته على الفور.
وجاءت وفاته بعد مقتل ثلاث باحثين نوويين ايرانيين في عام 2010. وعندما قتل مجتبى احمدي، احد قادة الحرس الجمهوري في بداية هذا الشهر قرب بيته منطقة كراج، شمال- غرب طهران، كانت الموساد هي المتهم الاول في العملية.
13 محاولة اغتيال
وبعد كل هذا العرض يتساءل هل كانت الموساد مسؤولة عن مقتل عرفات؟ ويجيب ‘من الواضح ان الاسرائيليين يستطيعون قتل عرفات، لانه دعم الارهاب ضدهم، كما انهم حاولوا قتله في السابق’.
ويعدد الكاتب محاولات اسرائيل قتله ومنها عملية تونس التي ادت لمقتل الرجل الثاني في منظمة التحرير خليل الوزير (ابو جهاد) فيما نجا منها عرفات لانه كان في الخارج يتريض.
وفي عام 2003 كشف هاني الحسن، الذي عمل مستشارا امنيا لعرفات ان الزعيم الفلسطيني نجا من اكثر 13 محاولة اغتيال منها طرد من الانثراكس او الجمرة الخبيثة ارسل اليه في نفس العام. ويقول غاي ان محاولات اغتيالات عرفات بدأت في الستينات من القرن الماضي حيث نجا من الموت في كانون الاول (ديسمبر) 1967 عندما كان يختبيء في بيت (يقول الكاتب انه فيلا عرفات) في رام الله، وحال سماعه اصواتا تتحدث بالعبرية قفز من الطابق الثاني واختبأ في سيارة قريبة.
وتعرّض في اثناء اجتياح بيروت عام 1982 الى اكثر من محاولة اغتيال. ويختم بالقول ان اسرائيل حاولت اكثر من مرة اغتيال عرفات، وكقوة نووية قادرة على اكتساب مادة البولونيوم-210 السامة.
ويتساءل وولترز ان كان احد عملاء الموساد قام بوضع جرعة من المادة السامة في فرشاة اسنان عرفات حيث تشبعت بها لثته عند تنظيفه اسنانه، وقد يكون هذا السيناريو بعيد المنال، ولكن هذا مثل وضع المادة السامة في اذن العدو، في اشارة لمحاولة اغتيال خالد مشعل. القصة ليست بهذه البساطة كما يقول وولترز، فماذا تريد الموساد ومعها اسرائيل تحقيقه من مقتل عرفات الذي كان في ذلك الوقت اي عام 2004 قوة مستهلكة، ويمضي للقول ان الكمية العالية من البولونيوم-210 السام التي عثر عليها مما يقترح كما يقول ان فلسطينيين وضعوها كي يورطوا اسرائيل. لم يقل لنا وولترز كيف حصل الفلسطينيون على هذه المادة السامة. وفي نهاية تقريره يدعو الكاتب للانتظار حتى نعرف اكثر واي جزء جسده قد اصيب اولا.
واذا تبين حقيقة ان الموساد تقف وراء العملية فنحن متأكدون من استمرار وحدة كيدون بقطع الرؤوس ولسنوات قادمة.