سادت طويلاً بعد خمسينات القرن الماضي مقولة حول استثنائية لبنان في محيطه العربي. مردّ المقولة مذّاك أربعة أمور.
الأول، أن البلد الصغير كان لوحده خارج نطاق الانقلابات العسكرية ونخبها المستأثرة بالسلطة (من مصر إلى العراق، ومن سوريا إلى اليمن وليبيا، ومن السودان إلى الجزائر)، وخارج الممالك بالطبع، النفطيّ منها وغير النفطي، وسائر الأنظمة المراوحة بين حدّي التوحّش والاستبداد. والأمر الثاني، أنه ذو تركيبة ديموغرافية خاصة، يتوازن فيها المسيحيون والمسلمون تقريباً، وينقسمون إلى ملل ومذاهب تجد لنفسها حصصاً في السلطة ومؤسساتها وإداراتها العامة، فتُنتج نظاماً توافقياً يحول دون غلبة كاسحة لطرف، ويُبقي العسكر وأجهزة الأمن تحت أمرة السلطة المدنية وضوابط المعادلات الطائفية. الأمر الثالث، أن الاقتصاد اللبناني ليبرالي حرّ، لا تأميمات تطال رؤوس أمواله ولا تخطيطاً مركزياً يقيّد ديناميات مبادراته الفردية، ولا إملاءات صارمة على قطاعه المصرفي أو على الشركات الكبرى فيه. أما الأمر الرابع، فمفاده أن التعليم في البلد، ومثله الاستشفاء، رائدان وعريقان، تقودهما الإرساليات الأجنبية وصروحها منذ القرن التاسع عشر، ووسّعت المؤسسات الوطنية من انتشارهما، مع اعتماد لغة أجنبية أو أكثر في مختلف مناهجهما أو خدماتهما.
وهذا كلّه أنتج في ما أنتجه حيّزاً مقبولاً من الحرّيات العامة والخاصة، ومن جذب لنخب ثقافية عربية ولمنشقّين عن أنظمتهم، أو لمتموّلين فارّين من التأميمات عندهم، أو لطلّاب وطالبات وسيّاح يرون فيه تسوية أخّاذة بين المنطقة والغرب. وكان بالطبع لنكبة فلسطين أثرٌ في تكوين بعض ما أُشير إليه، إن في نتائجها السياسية الكوارثية في البلدان العربية التي أكّدت “الاستثناء” اللبناني، أو في تداعياتها الاقتصادية التي أفادت بيروت مرفأً وقطاعاً مصرفياً وخبرات مهنية.
على أن مقولة الاستثناء هذه، على ما حملته من وجاهة، تغافلت عن الكثير من العوامل التي حالت دون استدامتها.
فالنظام الطائفي، الذي كرّس زبائنيّة صارت السمة الأولى لإداراته ومؤسساته، حوّل الطوائف مع الوقت إلى ما يُشبه الكيانات السياسية المتنابذة حيناً والمتوافقة حيناً آخر. وصار لتنابذها إذ ارتبط بخلافات زعمائها على موقع لبنان في المنطقة وعلى دوره في الصراع العربي الإسرائيلي أن جعل الداخل اللبناني مكشوفاً على تدخّلات خارجية، مهدَداً استقرارُه ومرتبطاً بعوامل لا يملك القدرة على ضبطها.
والاقتصاد الحرّ المبني على أنشطة مصرفية وقطاعات خدماتية يتمركز جلّها في بيروت وجبل لبنان الشمالي عمّق الفوارق الطبقية، وأحدث نمواً وتنمية بسرعات مختلفة بين “المركز” و”الأطراف” مفاقماً النزوح الداخلي نحو بيروت وخالقاً أحزمة بؤس حول العاصمة أظهرت اللامساواة الصارخة بين اللبنانيين، خاصة في ما خصّ قدرتهم على الاستفادة من التعليم والاستشفاء النوعيّين.
وكان لجمود “الصيغة اللبنانية” وما حملته من توزيع مناصب ومن أحجام حصص صارت مع الوقت عرضة للضغط نتيجة التبدّلات الديموغرافية، أن جعلت كل إصلاح متعذّراً خشية المسّ بما اصطُلح على تسميته “حقوق الطوائف” و”فرادة الصيغة اللبنانية”.
هكذا، لم يكن ينقص التناقضات والتباينات العميقة بين اللبنانيين سوى موضوع ملتهب ليفجّرها حرباً ضروساً. فكان الخلاف على السلاح الفلسطيني في مخيمات اللاجئين ودوره إثر صعود الحركة الوطنية الفلسطينية المنطلَقَ لحرب أهلية في العام 1975، تحوّلت حروباً أهلية وإقليمية تغيّر مع الوقت بعض أطرافها، وأفضت بعد خمسة عشر عاماً إلى اتفاق أعاد توزيع المناصب بين الطوائف، وإلى واقع يُهيمن فيه النظام السوري على لبنان، في وقت تحتلّ إسرائيل قسماً من جنوبه.
ولعلّ مرحلة التسعينات شهدت التقلّص الأكبر لما عُدّ عوامل استثناء لبناني. فنُخب ما بعد الحرب الحاكمة، وجلّها منبثق من الحرب إياها، اتجهت لممارسة الاستبداد داخل طوائفها بهدف احتكار تمثيل الأخيرة، مستكملة بذلك مساراً ظهر خلال الحرب نفسها. واستبعاد النظام السوري للأطراف المسيحية “الحربية” من السلطة رافقه إتيان بقائد جيش رئيساً للجمهورية، وبتقوية لدور المخابرات وأجهزة الأمن وتدخّلها الفاقع في الشؤون السياسية. وصعود الظاهرة الحريرية بدعم سعودي في الاقتصاد وإعادة الإعمار، قابله صعود حزب الله بدعم إيراني في السياسة وفي امتلاك السلاح خارج الدولة بذريعة قتال إسرائيل المحتلّة.
ولم يفضِ إخراج القوات السورية من لبنان بعد اغتيال الحريري العام 2005، وقبلها الاحتلال الإسرائيلي العام 2000، ولا تجمهر مئات الألوف من اللبنانيين في الشارع خلف تحالفات جديدة بعضها عابر للطوائف إلى تبدّل جذري في التركيبة السياسية التي أرساها النظام السوري (والحرب)، إلا في ما خصّ عودة أو دخول الأطراف المسيحية المنبوذة سابقاً إلى السلطة. إلا أنها دخلت مأزومة ومرتبط كل قطب فيها بواحد من المحورين: الحريرية وامتدادها السعودي، وحزب الله وامتداده الإيراني. وهي لم تفلح في تبديل المعطيين المستجدّين في غيابها: تحوّل قائد الجيش تلقائياً إلى المرشّح الأول لرئاسة الجمهورية، ومشروطيّات القوى المسلمة المتخاصمة ورعاتها الإقليميين على أي مرشّح.
هكذا، وبعد فراغ مديد، انتُخب عسكري ثانٍ رئيساً. ثم انتُخب ثالث، بعد فراغ أطول، ولو أنه هذه المرة قائد سابق وآتٍ من الطرف المسيحي الأقوى. وفي هذا ما أنهى خلال عقد ونيّف فصلاً كان معتمداً بين العسكر والسياسة، لم يخرج عنه طيلة عقود سابقة سوى مرشّح عسكري واحد توافقي (فؤاد شهاب) إثر صدامات أهلية في العام 1958، نتيجة الخلل الداخلي والاختلاف على الموقف من الناصرية الصاعدة في المنطقة.
وفي الجوانب الإدارية والخدماتية والاقتصادية، تُظهر الوقائع منذ سنوات أن لبنان يشهد تراجعاً غير مسبوق، نتيجة ضحالة الكفاءات في الدولة ومؤسساتها، وتردّي الأحوال الاقتصادية والمالية وتوسّع شبكات الفساد والزبائنية. وتكفي نظرة إلى أسماء المسؤولين السياسيين للتنبّه إلى انعدام تداول السلطة أو تجديد النخب منذ أكثر من ربع قرن. وقد فاقمت الحرب السورية وتدخّل حزب الله فيها العام 2012 من الأوضاع الاقتصادية والسياسية والتردّي الخدماتي في لبنان، وأدّت إلى نزوح مئات ألوف السوريين إليه، ليصبحوا – مع اللاجئين الفلسطينيين – المخرج المناسب للطبقة السياسية، فتحيل عليهم كل نتائج سوء تدبيرها، وتحرّض عنصرياً ضدهم شاحذة الغرائز بما يثبّت بعض العصبيات الطائفية التي تقتات عليها.
وإذا أضفنا إلى كل ذلك تصاعد الرقابة والقمع ضد الأنشطة الثقافية والفنية (آخرها حفلة “مشروع ليلى” في جبيل)، وتمنّع كل إصلاح ذي صلة بالأحوال الشخصية وبحقوق المرأة اللبنانية، بدا لنا الواقع مظلماً على معظم المستويات.
هكذا يبدو الاستثناء اللبناني، بما كان حقيقياً من عناصره أو متوهّماً، إلى أفول. ولولا تراث من المقاومة لدى شرائح من “المجتمع المدني” أو مصداقية لدى بعض المثقفين والهيئات الحقوقية والمؤسسات التعليمية، ولولا موروث من العلاقة بالمهرجانات الفنية وتقليد سياحة ومعارض كتب وتطبّع مع حرّيات شخصية، لكان يمكن القول بلا كثير مجازفة إن لبنان لم يعد أكثر من ساحة تصفية حسابات إقليمية وتناحر أهلي وعنصرية وفشل سياسي واقتصادي شنيع…
* كاتب وأكاديمي لبناني