سيطرت «إسرائيل» وما زالت، على القدس الشريف والجولان السوري منذ حرب 1967. ماذا تغيّرَ في هذا الواقع بعد اعتراف ترامب بسيادة «إسرائيل» عليهما؟ خمسة متغيرات:
*أولها، اعتبار رئيس كبرى دول العالم ادعاءَ «الدفاع عن النفس» مسوِّغاً كافياً لفرض دولةٍ سيادتها على أرضٍ محتلة تعود لدولة أخرى. فعلةُ ترامب هذه مخالفة غير مسبوقة لفرض «الدفاع عن النفس» عنوةً كمكوّن لمفهوم السيادة في القانون الدولي.
*ثانيها، اعتبار ترامب أن التقادم، بمعنى مرور الزمن، مسوغاً لفرض دولةٍ سيادتَها على ارضٍ تحتلها، يُشكّل مخالفةً مدوّية للقانون الدولي، يمكن بعدها أن تتذرع «إسرائيل» بسيطرتها منذ 1967 على الضفة الغربية لتسويغ سيادتها عليها. مع العلم أن «إسرائيل» تعتبر أن اعترافَ ترامب بسيادتها على الجولان السوري، يتضمن شموله منطقة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا اللبنانية، لمجرد أن الجيش السوري كان موجوداً فيها عشيةَ حرب 1967 ما يجعلها، في نظرها، جزءاً من الجولان المحتل.
*ثالثها، أنهى اعتراف امريكا بسيادة «اسرائيل» على القدس الشريف، ودعمها للاستيطان الصهيوني لمناطق الضفة الغربية، دورَها «كوسيط نزيه» بين الفلسطينيين و»اسرائيل»، بل أنهى الحاجة إلى المفاوضات، إذ لا يبقى هناك من شيء للتفاوض بشأنه.
رابعها، تعزيزُ اتجاه بعض دول الخليج إلى تطبيع علاقاتها مع «إسرائيل» تمهيداً للاعتراف بها، بدعوى أن ايران أصبحت «الخطر الأول» على الأمة. في هذا السياق، دعا وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش إلى تحوّل استراتيجي بين الدول العربية و»اسرائيل»، بغية إحراز تقدم نحو السلام مع الفلسطينيين، وذلك من خلال اتفاقات ثنائية وزيارات يقوم بها ساسة ووفود رياضية، مدعياً أنه «إذا استمر بنا الحال على النهج الحالي فإن الحوار خلال 15 عاماً سيكون عن المساواة في الحقوق في دولة واحدة»، بدلاً من قيام دولة فلسطينية إلى جانب «إسرائيل».
*خامسها، اندلاع ردود فعل شعبية واسعة ضد سياسة ترامب الفاجرة في عدائها لحق الفلسطينيين في القدس، ولحق السوريين في الجولان، وتعاظم التأييد الشعبي لنهج المقاومة، وسط تخاذل الأنظمة العربية وعجزها المزمن عن مواجهة الهجوم الصهيوامريكي المتصاعد على الأرض والموارد والحقوق في طول القارة العربية وعرضها.
صحيح أن ظاهر الحال يؤشر إلى غلبة سياسية للولايات المتحدة و»اسرائيل» في صراعهما المحتدم مع العرب، لكن نظرةً متأنية إلى المشهد الإقليمي تشي بحقائق مغايرة. فالولايات المتحدة التي أسهمت بسخاء في دعم تنظيمات الإرهاب الإسلاموي، وسهّلت نقل مقاتليها إلى سوريا والعراق ولبنان، منيت بهزيمة نكراء بعدما تمكّن الجيشان السوري والعراقي (كما اللبناني) المدعومان بفصائل مقاومة شعبية، أبرزها حزب الله، من دحر هذه التنظيمات في شرق لبنان وجميع المحافظات السورية، باستثناء إدلب، وجميع المحافظات العراقية باستثناء جيوب محدودة في محافظتي ديالي والأنبار، ما دفع ترامب إلى استئخار سحب قواته، لزجّها مجدداً في عمليات عسكرية وأمنية بغية إعادة تأجيج الحرب الذاوية في الأقطار الثلاثة بالتعاون مع استخبارات دول أوروبية.
صحيح أن «اسرائيل» نجحت في ضرب حصار شديد الوطأة على قطاع غزة، لكنها اخفقت في كسر فصائل المقاومة أو احتوائها. بالعكس، ها قد نجحت المقاومة في تنظيم مسيرة مليونية على طول السياج الفاصل بين القطاع والمستعمرات الصهيونية في محيطه، كما في سائر مناطق الضفة الغربية، مقدّمةً الدليل الساطع على قدرتها التعبوية الفاعلة، وعلى تجاوب الشعب الفلسطيني مع نهجها المقاوم. أكثر من ذلك، نجحت فصائل المقاومة في الضغط على حكومة نتنياهو القلقة على أمن الانتخابات المقررة في 9 الشهر الجاري وحملها على تقديم جملة تنازلات، ولاسيما لجهة: وقف الاعتداء على الأسرى الفلسطينيين في السجون؛ وقف الاعتداءات في الضفة الغربية؛ تسهيل قيام قطر بدفع مبلغ 30 مليون دولار شهرياً موزعة على العائلات الفقيرة؛ فتح المعابر؛ تأمين السولار لتشغيل محطة توليد الكهرباء في غزة حتى نهاية عام 2019؛ تزويد القطاع بـ 120 ميغاواط من خط كهرباء 161 الإسرائيلي؛ إقامة منطقتين صناعيتين شرق مدينة غــزة وغرب معبر بيت حانون؛ إقامة مشفى لعلاج السرطان على نفقـة بعض المؤسسات الدولية؛ إدخال ما بين 1100 و1200 شاحنة بضائع يومياً إلى غزة.
نجاح فصائل المقاومة في قطاع غزة، بكسر منظومة الردع الصهيونية واضطرار حكومة نتنياهو إلى تقديم تنازلاتٍ لافتة لها
كل هذه التنازلات قدّمتها «اسرائيل» دونما ايّ إشتراط أو مساس بسلاح فصائل المقاومة، أو بحرية حركتها، وذلك لحاجتها الماسة إلى تهدئة ثابتة لمناسبة إجراء الانتخابات.
ماذا يمكن استخلاصه من مجمل المتغيرات الامريكية والتنازلات الاسرائيلية ونهج فصائل المقاومة في التعامل مع العدوان الصهيوامريكي؟ ثمة حقائق ثلاث:
*أولاها، أن النظام الإقليمي العربي المترهّل، بمعظم أنظمته المتخاذلة، وقمم رؤسائه السنوية وجامعته العربية المشلولة، بات عاجزاً في المطلق عن مواجهة التحديات والمخاطر والحروب التي عصفت بلبنان وسوريا والعراق وليبيا والسودان واليمن، وتوسع الاستيطان الصهيوني، وشنّ الحروب الإرهابية على معظم البلاد العربية بقيادة الولايات المتحدة ومن ورائها «إسرائيل». لا يمكن بل لا يجوز، والحال هذه، الركون إلى الأنظمة والحكومات والمؤسسات العاملة في إطار هذا النظام المترهل والآيل إلى السقوط أو الرهان عليها.
*ثانيتها، أن نهج المجاملة والمساومة والمفاوضة والمراوغة، الذي اعتمدته الأنظمة العربية المتعاونة مع الولايات المتحدة، أو المستتبعة لها، أخفق بامتياز ما يجعل نهج المقاومة هو الخيار الوحيد الباقي والمتاح أمام القوى الوطنية والنهضوية الحيّة في الأمة، وان فصائل المقاومة العربية الملتزمة هي المؤهلة والقادرة على قيادة نضال موصول من أجل التحرير والعودة في فلسطين، والحرية والوحدة الوطنية والديمقراطية وحكم القانون والعدالة والتنمية في سائر الأقطار العربية. لقد أثبتت فصائل المقاومة الناشطة في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن، أنها تُحسن التصدي لقوى العدوان ومواجهتها بصلابة بدليل نجاح حزب الله في دحر العدوان الصهيوني على لبنان عام 2006، وفي دحر التنظيمات الإرهابية في سوريا بالتعاون مع جيشها منذ عام 2013، ونجاح الحشد الشعبي في العراق بدحر «داعش» وحلفائه منذ عام 2016، ونجاح «أنصار الله» في اليمن في دحر العدوان الذي تشنّه امريكا والغرب الاطلسي بالتعاون مع حكومات وشركاء إقليميين. أخيراً وليس آخراً، نجاح فصائل المقاومة في قطاع غزة، باعتراف قادة العدو، بكسر منظومة الردع الصهيونية واضطرار حكومة نتنياهو تالياً إلى تقديم تنازلاتٍ لافتة لها.
*ثالثتها، أن التحوّلات الكبرى في تاريخ الأمم لا تكتمل في سنة أو سنتين، أو في جيل أو جيلين ما يستوجب تحلّي قوى المقاومة، قادةً ومقاتلين ومناضلين، بنَفَس طويل وبتخطيط استراتيجي متطور، وبقدرة على اختيار الحلفاء وتحديد الاعداء، وبحنكة للاستفادة من الظروف والفرص المؤاتية لتوقيت التحركات والأنشطة المطلوبة. في هذه المرحلة تحديداً يُستحسن أن تتحالف قوى المقاومة العربية مع ايران كون الطرفين يتشاطران الكفاح ضد عدوين مشتركين هما الولايات المتحدة و»إسرائيل». هذه الشراكة الاستراتيجية تمكّن قوى المقاومة من الاستفادة من منجزات إيران في صناعة الصواريخ وتكنولوجيا المعلومات والتواصل السيبراني.
هل من خيارٍ غير المقاومة؟
كاتب لبناني