هل يستطيع النظام الديمقراطي الليبرالي أن يصلح نفسه بنفسه؟

النظام الديمقراطي الليبرالي العالمي في أزمة، الشواهد على هذه الأزمة تتجلى في صورة رؤساء وقيادات، يدوسون الدساتير والقانون، ويسمون بأنفسهم على المؤسسات، بل يتهمونها بانقطاع صلتها بمصالح المواطنين، ويحاولون ابتكار طرق مدهشة للتحايل على الصعود للحكم، والاستمرار فيه، سواء في النظم الديمقراطية المستقرة، مثل بريطانيا والولايات المتحدة والهند، أو في النظم التي تمر بمرحلة التحول السياسي من النظام الشمولى إلى النظام الديمقراطي، مثل روسيا والمجر وبولندا. ويعتبر نموذج بوتين – ميدفيديف من الأمثلة الفجة في المجموعة الأخيرة.
الاعتقاد السائد بين علماء السياسية هو أن النظام الديمقراطي الليبرالي، سواء كان رئاسيا او برلمانيا يتمتع بالقدرة على تجديد نفسه من خلال الدورة الانتخابية، التي تسمح بتداول السلطة بين الأحزاب والقوي السياسية. لكن هذا الاعتقاد يحتاج الآن إلى إعادة النظر، لأن القوى الحقيقية التي تقرر إعادة تشكيل أنظمة الحكم، لم تعد هي الأحزاب، وإنما أصبحت قوى مؤسسات المال والأعمال، التي تقدم التبرعات والعون المالي للأحزاب، فتصبح الأخيرة في خدمتها.
قوى المال والأعمال نفسها، فقدت القدرة على إصلاح نفسها بنفسها، وقد جاءت الشهادة على ذلك، من ألان غرينسبان الذي قال، خلال فترة رئاسته لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، في شهادة خطيرة أمام الكونغرس، بعد الأزمة المالية عام 2008، إن مؤسسات الأعمال، وعلى رأسها المجموعات المالية الضخمة، تحولت غالبا إلى جماعات لتحقيق المصالح الخاصة لقياداتها ومالكيها، وأن الأمر يحتاج بالضرورة إلى تدخل من الدولة، لتنظيم نشاط المجموعات المالية، ومؤسسات الأعمال. بالطبع فإن شهادة غرينسبان انصبت على علاقة المجموعات المالية ومؤسسات الأعمال بالسوق، ولم تتناول علاقتها بالسياسة، لكننا نعرف يقينا أن المرشحين للرئاسة، أو للمناصب المنتخبة تتوقف فرصهم على التبرعات والمساندة المالية، للاستمرار في المنافسة أو الفوز. نحن نعرف مثلا أن كامالا هاريس نائبة الرئيس الأمريكي المنتخب كانت قد خرجت من سباق الرئاسة بسبب عجزها عن الحصول على الدعم المالي الكافي، كما نعرف كذلك أن السيناتور إليزابيث وارين فقدت تأييد شركات النفط والغاز، بسبب إعلانها برنامجا يتضمن التزامات بيئية قد تحد من أنشطة هذه الشركات، فعجزت عن المنافسة.
قدرة النظام الديمقراطي على تصحيح نفسه بنفسه أصبحت محل شك مع صعود التيارات الشعبوية، وبروز ظاهرة الحاكم القوى الذي يلعب دورا فوق القانون، وفوق المؤسسات، وتكريس ظاهرة الاحتكار، خصوصا مع تطور الاقتصاد الرقمي، وهو التطور الذي أثبت حتى الآن أنه يكرس سيطرة عدد قليل من الشركات على المعاملات الإلكترونية، ولا يعترف بسيادة قواعد المنافسة، أو بوجود قاعدة واسعة للإنتاج الرقمي، في المجالات المختلفة، نظرا لضخامة الاستثمارات المطلوبة. ويمكن القول باطمئنان، بأن قدرة النظام الديمقراطي على إصلاح نفسه بنفسه تتوقف على إصلاح النظام الرأسمالي نفسه، بتحجيم نفوذ الشركات الاحتكارية، ووضع قواعد لضمان المنافسة، وإتاحة مساحة لقاعدة واسعة من الشركات الصغيرة والمتوسطة لتعمل في السوق، بما يعزز النفوذ الاجتماعي للطبقة المتوسطة، وصغار رجال الأعمال؛ فبدونهم تستطيع الشركات العملاقة مثل أمازون ومايكروسوفت وأبل، وفيسبوك في الولايات المتحدة، ومجموعة علي بابا في الصين، أن تحكم سيطرتها على الأسواق كما تشاء، وأن تتمدد من مجالات الكومبيوتر والبرمجيات إلى مجالات التجارة الإلكترونية، ومنها إلى خدمات التمويل، وصولا إلى إتاحة الإئتمان وإصدار العملات الرقمية، وهو ما تسعى إليه شركة مثل فيسبوك منذ أكثر من عامين. وعلى الرغم من ظهور نزعات قوية بين المشرعين والسياسيين، لتقسيم هذه الشركات إلى وحدات اقتصادية أصغر، فإن ما نشهده فعلا هو أن قبضتها على الأسواق تزيد.

كلما كانت طبيعة النشاط الاقتصادي تميل إلى الاحتكار، قوي الدافع لتحقيق الأرباح على حساب المستهلك والمجتمع ككل

ما أقوله هنا ينطبق فقط على الدول ذات الأنظمة الديمقراطية المستقرة، والدول التي تسير في مرحلة الانتقال من الشمولية، ولا ينطبق على الدول الاستبدادية، التي يسودها حكم الفرد، والتي تحكمها بصورة حصرية نخبة عائلية، أو قبلية، أو دينية، أو تكنوقراطية، تستأثر بالحكم، وتعتبره حقا تاريخيا لها دون غيرها، ويتكاثر فيها الحكام المستبدون. في هذه النظم لا يجوز الحديث عن الديمقراطية، ولا عن التجديد السياسي المفتوح بلا قيود حصرية، ومن الصعب تصور وجود ديمقراطية في هذه الدول بدون انطلاق روح مجتمعية جديدة، تنهض بالنظام السياسي من حالة الركود والصدأ، إلى حالة الديناميكية والتغيير. إن جذور أزمة النظام الديمقراطي الليبرالي تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، مع الأزمة التي تسبب فيها ارتفاع أسعار النفط، وانتشرت فيها ظاهرة الركود التضخمي والبطالة في العالم الرأسمالي، بدءا من اليابان في الشرق إلى الولايات المتحدة في الغرب. ومع ظاهرة الركود التضخمي ظهر داعية اقتصادي جديد هو ميلتون فريدمان، قال إن مسؤولية مؤسسات الأعمال والمجموعات المالية هي تحقيق الربح، وأنه كلما تعاظم الربح زادت فرص النمو وإتاحة فرص جديدة للعمل. ومع أن هذه النظرية سقطت فعليا في عام 2008 مع الأزمة المالية، التي اجتاحت العالم، وأدت إلى الضغط من أجل استعادة دور الدولة، بتوفير ما يقرب من 700 مليار دولار من الحكومة الفيدرالية، لإنقاذ مؤسسات مالية وشركات صناعية ضخمة، فإن السوق عادت إلى سابق عهدها في تحقيق الأرباح على حساب المستهلكين والمجتمع ككل.
ولا يمكن الخروج من معضلة احتكار المجموعات المالية، والمؤسسات الصناعية والتجارية الكبرى، للأنشطة الاقتصادية على حساب المنافسة والمجتمع، إلا بحل معضلة طبيعة النمو الرأسمالي، التي أوضحها بجلاء توماس بيكيتي، خصوصا قانون تركز التراكم الرأسمالي لدى الأقلية، ونمو الإيرادات الرأسمالية، بمعدلات تفوق النمو الاقتصادي، والدخل الفردي من العمل. ولا يكفي أن يعيد بيكيتي إنتاج نفسه في كتابات تكرر بصور أخرى ما قاله في كتابه عن رأسمالية القرن الواحد والعشرين. ومن الضروري تطوير أدوات تحليلية تتجاوز مجرد رصد ظاهرة التفاوت الاقتصادي والاجتماعي، إلى تقديم حلول عملية ومقبولة لثغرات وعيوب النظام الرأسمالي، خصوصا في النظام الضريبي، مثل الملاذات الضريبية، والضرائب التصاعدية، والإعفاءات الضريبية لرجال الأعمال؛ فليس من المعقول أن يدفع العاملون لدى وارين بافيت للضرائب، نسبة من دخلهم تقل عما يدفعه الملياردير الأمريكي، وقد انتقد هو نفسه ذلك عام 2011. إن التعامل مع النتيجة السياسية الصادمة التي توصل إليها بيكيتي، والمتمثلة في تكريس سلطة الأقلية الأوليغاركية على السياسة والأسواق، يحتاج إلى جدية أكبر من الأكاديميين ورجال السياسة وصناع القرار السياسي المستقلين، الذين يدرك عدد متزايد منهم خطورة استمرار الوضع الحالي على الرأسمالية وعلى الديمقراطية الليبرالية، ومنهم كلاوس شواب مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي، وجوزيف ستيغليتز أستاذ الاقتصاد حامل جائزة نوبل، وكريستالينا جورجيفا المديرة الحالية لصندوق النقد الدولي، التي تتبنى نظرة تقدمية للتنمية في العالم. وقالت جورجيفا في مقال أخير نشرته على الموقع الرسمي للصندوق، يعبر عن وجهة نظرها، إن الاستثمار في برامج وسياسات تأخذ في اعتبارها مصالح الناس سوف يساعد على تشكيل اقتصاد عالمي أفضل، لمرحلة ما بعد أزمة كورونا. وقالت بإصرار إن العالم «لا يستطيع ويجب أن لا يعود في الغد إلى اقتصاد الأمس».
ويمكن القول بشكل عام إنه كلما كانت طبيعة النشاط الاقتصادي تميل إلى الاحتكار، قوي الدافع لتحقيق الأرباح على حساب المستهلك والمجتمع ككل، وعلى العكس من ذلك فكلما كانت طبيعة النشاط الاقتصادي تميل إلى المنافسة، قوي الدافع للاهتمام بتقديم خدمة أفضل، أو سلعة أكثر جودة للمستهلك، لضمان حجم أكبر للسوق، لأن ذلك هو الذي سيقرر مستوى الأرباح في نظام تنافسي غير مشوه. ولا يختلف الأمر كثيرا في السياسة، ذلك أن تحول الأحزاب السياسية إلى جماعات للمصالح الخاصة، تعتمد على الممولين، يؤدي بشكل عام إلى تكريس ما أطلق عليه توماس بيكيتي «الأوليغاركية الجديدة». ومن الضروري كذلك إعادة النظر في تنظيم وفلسفة إدارة المشروعات العملاقة ذات الطابع الاحتكاري، أو شبه الاحتكاري، مثل البنوك وشركات البنية الأساسية العاملة في مجالات توزيع الغاز والكهرباء والسكك الحديد والطيران. وكان الاقتصادي الفرنسي جان تيرول الفائز بجاىزة نوبل في الاقتصاد عام 2014 قد قدم إسهامات نظرية مهمة جدا لتحقيق ذلك، مؤكدا أن المجموعات المالية العملاقة والمؤسسات الصناعية – التجارية الضخمة، تحتاج إلى نمط من التنظيم والرقابة، يختلف عن ذلك الذي ينظم أنشطة الشركات الصغيرة والمتوسطة، خصوصا، أننا نرى عمليا أن الشركات الصغيرة والمتوسطة تموت تحت أقدام المجموعات الضخمة حتى في سوق تجارة التجزئة.

وتقدم الصين، التي تعتمد فلسفة «اشتراكية السوق» في الوقت الحالي نموذجا شديد الجرأة لإعادة تنظيم الشركات العملاقة، بعد أن أوقفت إصدار الأسهم الأكبر في العالم للذراع المالي لشركة علي بابا، الذي يطلق عليه «أنت» على أساس أن هذا الإصدار يخالف قواعد المنافسة وحرية السوق. وبعد إصدار أوامر بوقف الإصدار المالي، الذي كانت قيمته 35 مليار دولار، بدأت سلسلة تحقيقات مع رجل الأعمال الصيني (جاك ما) الذي يملك المجموعة، وكان من أهم الاتهامات الموجهة له هو استخدام سياسية تمييزية مع مورديه، تقوم على التزامهم بعدم التوريد إلى منصة تعامل تجاري رقمي غير «علي بابا» فأدى ذلك عمليا إلى حرمان المنصات التجارية المنافسة من إمدادات الموردين، الذين يعملون مع «علي بابا». ويصر المحققون الصينيون في الوقت الحاضر على ضرورة تخلي جاك ما، عن هذه السياسة وفتح الباب للمنافسة الكاملة أمام منصات التجارة الإلكترونية.
السبب الآخر الأهم الذي يجري التحقيق بشأنه، يتعلق باقتحام مجالات النشاط المالي وتسوية المدفوعات وإصدار الإئتمان، وهو ما يمهد الطريق لمالك «علي بابا» في أن يقوم بإصدار عملة خاصة، يتم تداولها على نطاق عالمي، على غرار العملة التي يسعى مارك زوكربيرج إلى إصدارها (الليبرا) التي قد تتحول هي الأخرى إلى عملة عالمية إذا تم استخدامها في تسوية مدفوعات التجارة الإليكترونية التي يديرها فيسبوك. المشكلة هنا هي أن غياب الرقابة على مؤسسات تسوية المدفوعات وإصدار الإئتمان يمكن أن يؤدي إلى فوضى نقدية عالمية، وتفاقم الأزمات المالية والإقتصادية واحدة بعد الأخرى. ومن الملاحظ هنا أن نمو الأنشطة الاقتصادية على أسس تكنولوجيا الاقتصاد الرقمي، أصبح يسبق التنظيم القانوني لهذه الأنشطة، ما يضع الشركات الكبرى العاملة في هذه الأنشطة في موضع احتكاري، يجب عدم السماح به أو باستمراره، ولذلك فإن معركة إعادة تنظيم مجموعة «علي بابا» تمثل اختبارا لقوة الإرادة العالمية في ضمان المنافسة، ومنع الاحتكار، لما لذلك من آثار اقتصادية وسياسية واسعة النطاق.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول تيسير خرما:

    تطورت الليبرالية الديمقراطية بالعالم بعقودها الأولى إيجاباً فحمت حرية الفرد ما لم يعتدي على حرية آخرين وحمت ملكية فردية ونموها الشرعي ما لم تقنص أملاك آخرين وحمت نفس ومال وعرض ومساواة أمام عدالة لكن الليبرالية الديمقراطية تطورت بالعقود الأخيرة سلباً بمناحي عدة فوصلت حد منح مجرم حقوق أكثر من مواطن معتدى عليه فمنحت قاتل حق الحياة رغم حرمه القتيل منها ومنحت مغتصب حقوق أكثر من معتدى عليها ومنحت عامل أجنبي مخالف للقانون حقوق أكثر من مواطن ملتزم بالقانون ومنحت مجرم هارب حقوق أكثر من كوادر أجهزة أمنية.

  2. يقول حقاني:

    كل هذه المسميات لا تغنى ولا تسمن من جوع ،رأينا ديمقراطيات الغرب التي تكيل بمكيالين.العدل فقط في النظام الاسلامي الذي اعطى الجميع حقه من المسلمين وغيرهم ،وخير مثال بعد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم،الفاروق عمر رضي الله عنه.

إشترك في قائمتنا البريدية