لم يحقق نتنياهو نصرا على المقاومة الفلسطينية في غزة، لكنه يمهد منذ أكثر من أسبوع إلى أن القوات الإسرائيلية على وشك تحقيق انتصار عسكري هناك. ومن المقرر أن يلقي خطابا أمام اجتماع مشترك للكونغرس الأمريكي في 24 من الشهر الحالي، ليتكلم كما لو كان هو المنتصر، الذي يعرض شروطه للسلام، وهو يظن أنه وهو يفعل ذلك سيغير حقيقة الوضع على الأرض، حيث ما يزال الجيش الإسرائيلي عاجزا عن فرض سيطرته. نتنياهو لم يحقق أهداف الحرب التي حددها، فلا هو استعاد المحتجزين، ولا هو أسكت مدافع المقاومة، ولا هو استطاع فرض نظام أمني يضمن هدوء جبهة غزة والجبهات الأخرى. حقيقة الأمر أن رحلته إلى واشنطن هي لطلب السلاح، واستمرار تدفق المساعدات، لأنه من دون ذلك لا يستطيع الاستمرار في الحرب.
نتنياهو واللوبي الصهيوني من ورائه، لا يهتم بالرأي العام، وإنما بكسب تأييد مراكز صنع القرار، والتواؤم مع مصالح المجمع العسكري- الصناعي – المالي في الولايات المتحدة
يريد نتنياهو أن يحصل على المساعدات العسكرية والمالية والدبلوماسية والاستخباراتية الأمريكية، بلا مقابل، وبلا شروط مسبقة، مستعينا بقوة اللوبي الصهيوني، الذي يتدخل حاليا بشكل مباشر في الانتخابات الأمريكية، بمحاولة إسقاط كل الأصوات المؤيدة للحق الفلسطيني، أو التي تجرأت على انتقاد البربرية العسكرية الإسرائيلية في حرب غزة، كما حدث مع النائب جمال بومان في الانتخابات التمهيدية في نيويورك لمرشحي الحزب الديمقراطي في الكونغرس.
ويبدو أن قرار اللوبي الصهيوني، هو عدم التسامح مطلقا مع أي شخصية اتخذت موقفا غير مؤيد لإسرائيل في حرب غزة، وسوف تخبرنا نتائج التصويت في الانتخابات الأمريكية ما إذا كان هذا القرار يشمل الرئيس الأمريكي الحالي. الصوت الصهيوني يصطف الآن بشكل سافر مع قوى اليمين القومي المتطرف، كما هو الحال في فرنسا. خطاب نتنياهو المنتظر أمام الكونغرس من المرجح أن يحمل ملامح رؤيته للوضع في غزة والضفة، وجنوب لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن، وإيران، وهي الجبهات السبع التي كان مئير بن شبات مستشار الأمن القومي ورئيس جهاز الأمن الداخلي (الشاباك) سابقا، قد حدد أنها هي مصادر تهديد وجود إسرائيل، ثم ترددت في تصريحات نتنياهو أكثر من مرة خلال الشهر الماضي، كذلك من المرجح أن يتناول علاقات إسرائيل مع المنطقة بأكملها، ويوجه رسالة للكافة في المنطقة بأن ما يفعله مع الفلسطينيين، قابل للتكرار مع الشعوب الأخرى. كما سيتناول الانقسام الإقليمي بين المحور الأمريكي – الإسرائيلي الصهيوني، ومحور الصمود والمقاومة. وكذلك رؤيته لمستقبل العلاقات الإسرائيلية – الأمريكية في الوقت الذي يختار فيه الأمريكيون رئيسهم، وممثليهم السياسيين لفترة رئاسية جديدة، وسط صراع حاد بين معسكرين، واحد منهما يقف وراء الرئيس الحالي، والثاني وراء الرئيس السابق.
لاءات نتنياهو
مع أن الكونغرس في واشنطن هو المنصة التي سيخاطب منها نتنياهو الولايات المتحدة، عبر ممثليها المنتخبين، فإنه من المرجح أن يضع أمام العالم كله شروطه لما يعنيه تحقيق السلام بالنسبة لإسرائيل، أو شروط «عصر السلام الإسرائيلي» في الشرق الأوسط كما يريده. هذه الشروط، وكل واحد منها يتحدث عن نفسه، تتمثل في الآتي:
أولا: لا.. لإنهاء الحرب في غزة قبل تدمير المقاومة الفلسطينية تماما، ومن ثم فإن الحرب مستمرة، ولا أفق في الوقت الحاضر لإنهائها.
ثانيا: لا.. لعودة السلطة الوطنية الفلسطينية إلى غزة، بل إن حكومة نتنياهو تعمل على إضعافها حتى في الضفة، تمهيدا لتطورات مقبلة منها محاولة توسيع المستوطنات حول نابلس وجنين، تمهيدا لقضم شمال الضفة.
ثالثا: لا.. لإقامة دولة فلسطينية في أي صورة من الصور. وهو يعتزم كذلك القضاء على كل ما تبقى من أوسلو.
رابعا: لا.. لإيران نووية، وهو سيدق بقوة على هذا الوتر أمام الكونغرس.
خامسا: لا.. لأي تنازلات مقابل التطبيع مع السعودية، وأن الرياض هي التي يجب أن تستجدي التطبيع مع تل أبيب، ولا يريد نتنياهو أن يكون لإدارة بايدن أي فضل في هذا التطبيع على وجه الخصوص.
سادسا: لا.. لعودة محور فيلادلفيا تحت السيادة المصرية، ونحن نرى من الآن تغييرات تجري على الأرض في هذا السياق.
سابعا: لا.. لمنع السلاح عن إسرائيل أو فرض عقوبات عليها، وهو سيوجه انتقادا إلى الإدارة الحالية بشكل غير مباشر أمام الكونغرس، على اعتبار أن منع السلاح عن إسرائيل يهدد الأمن القومي للولايات المتحدة.
عصر السلام الإسرائيلي في الشرق الأوسط يعني استمرار الحرب وتوسيعها إلى حرب إقليمية شاملة، وإقامة محور إقليمي بقيادة إسرائيل، وليس بقيادة الولايات المتحدة، لشن حرب على إيران، وما يسمى «محور المقاومة» في المنطقة، وهو المحور الذي يضم الجبهات السبع، التي تحدث عنها أكثر من مرة، في إطار رؤية للصراع المستمر في الشرق الأوسط، ومحاولة إحداث انقلاب في ميزان القوى الحالي لصالح المحور الصهيوني. ويعلم نتنياهو جيدا أن الرأي العام الأمريكي، خصوصا بين الشباب، يقف بقوة ضد منطق تبرير استمرار الحرب في غزة، وحرمان الشعب الفلسطيني من حقه المشروع في تقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة ذات السيادة الكاملة، لكن نتنياهو واللوبي الصهيوني من ورائه، لا يهتم كثيرا بالرأي العام، وإنما بكسب تأييد مراكز صنع القرار، والتواؤم مع مصالح المجمع العسكري- الصناعي – المالي في الولايات المتحدة.
لن يحصل على غزة
كشف نتنياهو عن خلافه مع الإدارة الأمريكية الحالية في العلن، في الوقت الذي كان يعلم فيه أنه ذاهب قريبا إلى واشنطن، وهو ما يثير تساؤلات كثيرة عن الحكمة في ذلك، ألم يخطر بباله أنه كان من الأفضل أن ينتظر حتى يذهب إلى هناك، ويشرح قضيته، وهو قريب من أبواب البيت الأبيض؟ ألم يخطر بباله أن الكشف عن الخلاف بالطريقة التي جرت يمكن أن يثير حفيظة الرئيس الأمريكي وأعضاء الإدارة الكبار المرتبطين بالرئيس؟ ألم يخطر بباله أن الكشف عن الخلاف علنا قبل الزيارة، قد يُنْظر إليه على أنه تصعيد غير مبرر ضد الرئيس، الذي يستعد لانتخابات صعبة ضد المرشح الجمهوري؟ لقد جاء الكشف عن الخلاف بين تل أبيب وواشنطن ليؤكد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي اختار متعمدا أن يغامر بالضغط على العلاقات الأمريكية، والتأثير سلبا على فرص الرئيس بايدن في الفوز بفترة رئاسية ثانية. لقد كان صمود غزة هو الصخرة التي هوت على رأس العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية. لولا هذا الصمود لانتهت الحرب في أسابيع، كما كان يتوقع نتنياهو، لكن صمود غزة، رغم الهجوم البربري الوحشي، أيقظ الرأي العام العالمي، ليدرك حقيقة العدوان الإسرائيلي، الخلاف بين واشنطن وتل أبيب يتجاوز مجرد الموقف من الحرب ذاتها، ويمتد إلى رؤية مستقبل غزة وفلسطين والمنطقة بأسرها بعد الحرب. نتنياهو لديه رؤية للمستقبل، لا يميل للتعبير عنها بصراحة، وإنما هو يستعين بنوع من «الغموض الاستراتيجي» يجعل الآخرين يتساءلون ويمعنون في التخمينات، دون معرفة توجهاته الحقيقية. ومن المؤكد أنه لا يسعى لإحلال الاستقرار في غزة في الأجل القصير، لأنه يدرك أن ذلك سيكون في مصلحة حماس، وفي مصلحة خصومه السياسيين في الحكومة، مثل وزير الدفاع يوآف غالانت. البديل لذلك سيكون إطلاق حالة من الفوضى، بواسطة جماعات من المخربين والبلطجية المحليين. كما سيستمر نتنياهو في التلاعب بمسألة المحتجزين، من أجل تضييع الوقت في مناورات دبلوماسية عقيمة لا طائل من ورائها، غير استمرار الوضع القائم لأطول فترة ممكنة حتى نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، مع إغراق القوات الإسرائيلية بمسؤوليات مركبة في غزة عسكرية وغير عسكرية، وافتعال خلافات مع غالانت حتى يقيله أو يستقيل.
في تصريحاته للقناة 14 الإسرائيلية في 23 من الشهر الماضي، أعلن نتنياهو أنه مستعد لصفقة جزئية مع حماس، يتم بمقتضاها استعادة بعض المحتجزين (وهو ما يعني ضمنا إطلاق سراح بعض الاسرى الفلسطينيين في المقابل). وهو بذلك يعفي نفسه من المسؤولية، عن عدم استعادة المحتجزين. وعندما سئل عما إذا كان مستعدا لعقد صفقة مع حماس بعد انتهاء الحرب (وهو سؤال ينطوي ضمنا على الإقرار بأنه لن يستطيع تحقيق انتصار كامل على الحركة)، رد نتنياهو بوضوح قائلا «لا»، مؤكدا أنه مستمر في الحرب إلى النهاية حتى تدمير حماس، وأنه لن يتخلى عن هذا الهدف. كما أنه سيحاول أيضا تمرير رسائل قوية إلى حلفاء الولايات المتحدة الذين يستظلون بظلها في المنطقة، تفيدهم بأن إسرائيل هي الأبقى، وإنها القوة القادرة على حمايتهم مما يخافون من تهديدات إقليمية أو محلية. في نهاية الأمر فإن إسرائيل قد تحصل بعد خطاب نتنياهو في الكونغرس، بلا مقابل على السلاح الأمريكي، وعلى التطبيع العربي، لكنها لن تحصل على غزة بشروط أو بلا شروط، فغزة ستظل حصنا للصمود والمقاومة.
كاتب مصري