أثيرت في الآونة الأخيرة وفي أكثر من منبر إعلامي تساؤلات عدة تتعلق بالنقد وفاعليته والناقد ووظيفته، وطُرحت رؤى وتصورات بعضها حقيق بنا التملي فيه، وتأمل فاعليته وبعضها الآخر واجب علينا أن نُهيئ عدته قبل أن نقوم بطرحه. وآخرها المقالان اللذان كتبهما الروائيان لطفية الدليمي (الناقد الأدبي: من مرجعية التقييم إلى الدراسات الثقافية) بتاريخ 24/10/2021 وواسيني الأعرج (هل أصبحت المؤسسة النقدية العربية دار إفتاء) بتاريخ 19 /10/2021 والمنشوران في صحيفة «القدس العربي» واللذان لامسا من خلالهما مظاهر مهمة في حركة النقد الأدبي خاصة، والثقافة العربية عامة. وانطلاقا مما طرحاه تفاعلاً واستيحاءً وليس تحاوراً حرفياً مباشراً، في فقرات ذينك المقالين، ولا جواباً قاطعاً عن تساؤلاتهما المهمة فيهما.
إذ ما زال في المتسع طرح المزيد من هذه التساؤلات التي غايتها الارتقاء بالمستوى النقدي، والتنبيه إلى ظواهر استشرت في واقعه، وصار لزاماً معالجتها والحد منها، لاسيما ما صار يعانيه النقاد الحقيقيون من التهميش بسبب صعود فئة من المتناقدين الطارئين.
وهو ما جعل نقدنا الأدبي الراهن بالعموم تعلة أو شماعة، تعلق عليها كل إخفاقات الواقع وأمراضه، ومنها التراجع النوعي في الأدب.. لكن هل تُعالج الأسئلة وحدها أمراض الظاهرة النقدية، وتبث فيها روح الأمل والعمل، وتساعد في تجاوز المطبات ومواجهة العقبات؟ وهل تستطيع هذه الأسئلة إثارة أو تحفيز المعنيين بها، على وضع إجابات صميمية يُرتجى منها وضع الحلول؟ ولماذا تُطرح غالبية الأسئلة من عين واحدة متقولبة في بُعد واحد، مهملة أبعاداً أخرى تنطوي على وجهات نظر مغايرة؟ وكيف لنا أن نستدل على إجابات معينة، والأسئلة نفسها بحاجة إلى بعض الموضوعية والشمولية؟
قد لا يجانبنا الصواب إذا قلنا للوهلة الأولى، إن المنظومة المركزية التي تمسك بموازين قوى الثقافة العربية، وتُسيّرها على هواها تمويلاً وإدارةً وإعلاماً، هي السبب وراء المآخذ التي تسجل على نقدنا الأدبي الراهن، الذي فيه من التحديات والأعباء ما لا يُحتمل معها توجيه أي عذل له أو إلقاء أي لوم على نقاده.. ومع ذلك، فإن هناك وقائع تدلل على أن تلك المنظومة بما تملكه من رأسمال مادي ومعنوي هي وحدها القادرة على إعلاء مكانة الذي يمالئها، ويخدم أغراضها لتسيّده على رؤوس أشهاد ثقافتنا الحقيقيين، جاعلة منه قطباً وهو في الحقيقة ذيل لها، ومتخذة منه فارساً وهو بلا فروسية ولا نجابة.. بينما تخفض من منزلة مبدع آخر أو تعتّم على عطائه المميز والكبير.
وهو أمر حاصل في كثير من الأوقات، ذلك أن السلطة ـ سياسية كانت أو ثقافية ـ قادرة على إحداث التأثير في المحيط الثقافي من ناحية خلق كيانات بعينها، وإلغاء غيرها أو عرقلتها، وحسب ما تقتضيه شؤونها. وهذا يحصل حتى في السلطات التي عُرفت بإيجابياتها في الميدان الثقافي، ومثالنا الروائي المتميز فتحي غانم الذي تعرض إلى حيف كبير، وتم التعتيم على عطائه ردحا طويلا من الزمن، بسبب معاداة أحد الأقطاب المتنفذين في السلطة في الحقبة الناصرية، ظناً من هذا القطب أنّ الروائي عناه بإحدى الشخصيات الوصولية في رباعيته الفريدة «الرجل الذي فقد ظله».. ولم يُرفع هذا الحيف عن الروائي إلا بعد فقدان ذلك المسؤول موقعه في السلطة.
فمن أين يتسنى إذن للنقاد المستقلين الحقيقيين أن يشكلوا مؤسسة، ما دام طابور المنظومة المركزية يهددها بالابتلاع؟ ومن أين يتأتى النقد الخالص والنزيه في خضم هذا السيل الجارف والعرمرم من نقد الإخوانيات والمحاباة الذي ساهمت المنظومة الرسمية في شيوعه، عبر إعلائها اسماء بعينها لتصير في الواجهة النقدية، مع أن كثيراً منها يَذم النقد الأدبي ويتهمه بالذواء والموت على يد النقد الثقافي والدراسات الثقافية، ويتصور أن النقد فرع من فروع هذه الدراسات التي فيها للنقد الثقافي الأفضلية والفائقية بوصفه الوريث الشرعي للنقد الأدبي وهو خليفته الذي سيفتح الطرق المسدودة.. إلى آخره من الدعاوى التي تروّجها المنظومة الرسمية.
وأول ما ينبغي في التصدي لمثل هذا الواقع الزائف هو، التدليل على بطلان هذه الدعاوى التي تريد اتخاذ النقد الثقافي ملاذاً يعصمها من نظريات النقد ومناهجه ومرجعياته ودقائق مفاهيمه ومصطلحاته، لتكون أولى كوارث النقد الثقافي هي إماتته للنصوص الإبداعية بهروبه من عوالمها، وخشيته من فحص أبنيتها وسبر خصائصها الفنية، وهذا من مظاهر عدم الاقتدار على التمنهج النظري مع فقدان القدرة التحليلية التي ينبغي أن يتحلى بها الناقد الأدبي. ولا خلاف في أن النقد الغربي كان قد مرَّ قبلنا بمثل هذه المركزية، لكنها تضعضعت بصعود الهامش، الذي لعب دورا في التنبيه إلى مخاطر التمركز؛ ومنها خطر الترويج للدراسات الثقافية ومحاولة طرحها بديلاً عن النقد الأدبي والدراسة الأدبية.
ولا خلاف في أن الذي يدفع بعضهم إلى النقد مستسهِلا إياه بما لديه من ثقافة عامة، ومعيقا العملية النقدية بالتعالي والمغالاة، هم مبدعو الأدب أنفسهم، اولا بالذاتية ـ على الرغم من مشروعيتها بالقدر المعقول ـ التي تدفعهم إلى الجري وراء النقاد ليحظوا بمباركتهم، وثانيا عدم تمتع الكثير من مبدعي النصوص الأدبية بوعي نقدي كاف للوقوف في وجه الطروحات المتعسفة.
ومع تقديري لرأي الروائية لطفية الدليمي في أن النقد الأدبي (لم يعُد اشتغالاً مكتفياً بنطاقه الكلاسيكي المعهود؛ بل صار عنصراً في نسق مركّب ثقافي شامل عنوانه «الدراسات الثقافية») فإنه ممكن، لكن بشرط ألا تضيع هوية النقد في الثقافة، وإذا ضاعت هوية النقد، فذلك يعني ضياع هوية الأدب أصلا. وهو ما وقف عنده جوناثان كولر Jonathan Cullerفي كتابه Literary theory ; A very short introduction عام 1997محذراً من تذويب النقد الأدبي في الدراسات الثقافية، متسائلاً: إلى أي مدى يخلق الأدب الثقافة؟ وهل يمكن أن يُقال إن الأدب يعبر عنها ويمثلها؟ وهل الثقافة هي النتيجة للتمثيلات وليست مصدرها أو سببها؟ داعياً إلى ضرورة أن تشدد الدراسات الثقافية على دراسة الأدب، بوصفه ظاهرة معقدة ومتناصة مع ضرورة الإصرار على فحص الأدوار الثقافية.
وقد أوصلته مناقشاته حول العلاقة بين الدراسة الأدبية والدراسة الثقافية إلى طرح أمرين: أولهما يتعلق بـ(المعتمد الأدبي literary canon) وثانيهما هي المناهج الملائمة لتحليل الموضوعات الثقافية، مؤكداً أن خطر المعتمد الأدبي هو كخطر الدراسات الثقافية، فهما متشابهان إلى حد كبير. وليس المعتمد سوى المنظومة في تغوّلها المركزي، الذي لا تريده الدراسات الثقافية أصلاً، بدءا من أول كتاب فيها وهو(culture and anarchy ) لماثيو آرنولد والصادر بطبعته الأولى عام 1899.
وعربيا ليست لدينا مؤسسة نقدية، استطاعت إعلاء الهامش وخلخلة المركز، لكن لدينا نقاد مؤسسون ونقاد يؤسسون مشاريعهم بعيدا عن السطح الثقافي؛ ضائعون في خضم المركزية الثقافية وبحرها اللجب؛ هذا البحر الذي ضاع فيه الأصيل وغلب فيه المال ومنطق القوة. وما دمنا بلا مؤسسة نقدية فكيف لنا بعد ذلك أن نلوم مؤسسة لا وجود لها، ثم نستنجد بالتي هي سبب الكارثة، ورأس البلوى التي فيها الداء والدواء، وقد تعملقت كمنابر إعلام امبراطورية تمنح صكوك غفران الثقافة شعراً وروايةً ونقداً وفكراً. وما من قارئ عربي إلا وهو يعرف هؤلاء المصكوكة اسماؤهم ببركات ونفوذ من لديه القوة والسلطان.
وإذا كان هوامش الثقافة بإمكانياتهم الفردية ومشاريعهم الخاصة يستطيعون إدامة الفعل الثقافي وتنويعه وإغناءه، فإن في ذلك أملا بقدرتهم مستقبلا على زعزعة مكانة المنظومة الثقافية الرسمية، التي لا تتوانى عن أن تبتدع شتى المظاهر والفعاليات الباذخة والخلابة، كي تحرف الأنظار عن الهوامش، فتشيع ما تريد هي إشاعته عن نقادها ومشاريعهم الخاوية.
وليس ممكناً مع هذا الحال مقارنة واقعنا النقدي بالواقع النقدي الغربي، ولا أن نضاهي تاريخه النقدي بتاريخنا، ولا أن نتطلع إلى ما يتطلع إليه نظريا وإجرائيا. وكيف لنا أن نرى نقدنا الراهن على حقيقته، ونحن مشبعة أنظارنا بمباهج ما وصل اليه النقد الغربي، وما تزفه إلينا المنظومة الثقافية الرسمية من أسماء كبرت إعلاميا في أحضانها، وليس لها من العطاء إلا ما هو ملمع ومعبأ في أغلفة برّاقة مصنوعة بحرفية.
وبسبب ذلك كله يواجه نقدنا الراهن تحديات لم يواجه مثلها في أي من مراحل تاريخه، وعلينا أن نقر بحجم هذه التحديات، بعد أن صارت لثقافتنا مراكز سطوة وعتو، ما لا يمكن للهامش أن يقاومها أو يتجاهلها.
وأنه لمشروع جداً أن يتنبه لمثل هذا الحال بعض روائينا وكتّابنا من الذين صار يؤرقهم الواقع النقدي الزائف، ويعز عليهم ما يرونه فيه من تراجع وعلل، جعلت منه عاجزا وخطرا على الأدب وتصومعا وجلدا للذات، وخواء يتمظهر في شكل سياحة للترفيه وقضاء الوقت، بعيدا عن الهموم والتطلعات، ومن ثم لا جنة للنقد موعودة، بل محكمة تُفتي في ما ليس لها فيه علم.
والمطلوب هو دعم الهامش لعله يقف على قدمين ثابتتين في عالم الثقافة ويعلن عن حقيقته، لا أن نكبله أكثر بالتغييب ناظرين إلى واقعنا النقدي على أنه مركز فقط غير منصفين الهامش ولا مدللين على ما يجري فيه من فاعلية، تحاول أن تواجه ترسانة المركز المالية والإدارية والإعلامية بترسانة غنية جوهرا ومظهرا.
وكلمة (كفى) هو ما ينبغي أن نوجهه للمنظومة الثقافية التي تمنع النقد من أن تكون له مؤسسته الحقيقية القادرة على أن تحد من شطط اللاتمرس في النقد، وسوء القراءة وضعف المنهجية وغلواء الإخوانية والضحالة في ما يكتبه المتناقدون، الذين ليس لهم سوى السطو والتجميع من هنا وهناك ناهيك من حمى الأبحاث المتدنية المسماة (عليا) التي صارت من سقط المتاع، وإنجاز المطلوب من أجل شهادات للتظاهر والحصول على وظيفة أو مؤهل يوفر لحامليها حظوة لدى المؤسسة الرسمية.
ولا خلاف في أن الذي يدفع بعضهم إلى النقد مستسهِلا إياه بما لديه من ثقافة عامة، ومعيقا العملية النقدية بالتعالي والمغالاة، هم مبدعو الأدب أنفسهم، اولا بالذاتية ـ على الرغم من مشروعيتها بالقدر المعقول ـ التي تدفعهم إلى الجري وراء النقاد ليحظوا بمباركتهم، وثانيا عدم تمتع الكثير من مبدعي النصوص الأدبية بوعي نقدي كاف للوقوف في وجه الطروحات المتعسفة. وهو ما يفسح المجال لبعض النقاد من الصولان والجولان دون تحفظ، بينما نجد هذا نادر الحصول مع مبدعين ذوي وعي نقدي ودراية معرفية بتنظيرات النقد الأدبي الشعرية مثل، نازك الملائكة وأدونيس ومحمد بنيس وعبد الرحمن طهمازي، وتنظيراته السردية مثل لطفية الدليمي ومحمد خضير وإدوارد الخراط ورضوى عاشور. فإن هؤلاء وأضرابهم من المبدعين الكبار يخشى المتناقد الطارئ الاقتراب من أعمالهم الإبداعية، لقصوره وضعف أدواته عن الارتقاء إلى مصافهم.
كاتبة عراقية
النقد العربي يقوم على شخصيات لا على مؤسسات.المأسسة عند العرب حالة قهرية بسبب الترسبات القبلية