هل يمكننا السخرية من كل شيء؟

أعترف بأنني من محبي الأدب الساخر والبرامج المتلفزة الساخرة حتى من بعض كبار السياسيين والحكام العرب.. وهي نادرة جداً، لفداحة الثمن!
وفرنسا (حيث تصادف أنني أقيم) سخية بذلك، وها هو مثلاً برنامج (كانتالوب) اليومي بعد نشرة الأخبار المسائية على القناة الأولى لا يقصّر في ذلك. كانتالوب ماهر في تقليد أصوات السياسيين الفرنسيين وبالذات رؤساء الجمهوريات.
وهكذا نرى مثلاً رئيس الجمهورية السابق السيد أولاند على الشاشة كما الرئيس الحالي ماكرون، لكن كانتالوب يقول بصوته وعلى لسانيهما ما لا يمكن لرئيس الجمهورية أن يقوله علناً.. أي الكلمات التي لا تقال.. وننفجر ضحكاً..

الإعدام لكانتالوب لو كان عربياً!

لا يمكن طبعاً لأي حاكم عربي أو زعيم لحزب أو ميليشيا في لبنان مثلاً أن يرضى بالسخرية منه على هذا النحو والتسامح على طريقة رئيس الجمهورية الحالي في فرنسا ماكرون أو سلفه أولاند أو من جاء قبلهما. فالحاكم الديمقراطي بالمعنى الحقيقي لا يضيق بأي نقد ساخر، أو لعله ينزعج سراً، لكن القانون يبيح حرية الرأي بما في ذلك حق السخرية (شرط اللا سخرية من الهولوكوست النازي ضد اليهود) والمنع لا يشمل طبعاً الدين الإسلامي. ولم يمنع مثلاً مجلة فرنسية مثل «شارلي ايبدو» من السخرية من سيدنا محمد ورسمته رجلاً تخفي عمامته المتفجرات القاتلة.. وأساءت إليه على نحو مفرط، وجرحت شعور ملايين المسلمين، وجاءت ردة الفعل عنيفة ضد دورية (شارلي ايبدو) بدخول مسلحين إليها وقتلهم محررين تصادف وجودهم، ويومها انتقدنا (شارلي..) كما انتقدنا قتل المحررين بدلاً من عقاب المسؤول بالطرق القانونية الفرنسية، وخرجت يومئذ تظاهرة مليونية فرنسية من أجل (الحرية الفكرية)، وكان ذلك لمصلحة دورية (شارلي ايبدو) وضد الإسلام.

السخرية من انهيار الجسر تثير النفور

حدث قبل حوالي شهرين انهيار جسر في مدينة جنوى الإيطالية بما عليه من سيارات وركاب وما تحته من بيوت وسكان، وتسبب ذلك في مصرع 45 شخصًا (وقيل بعد ذلك ان عدد الضحايا المنتشلة جثثاً من تحت الأنقاض ازداد كثيراً).. ولكن إيطاليا كلها بكت الضحايا، وكرمت الجماهير ذكرى الضحايا بالصمت طوال 45 دقيقة بعدد القتلى، أي بدقيقة لكل منهم، وذلك قبل مباراة محلية لكرة القدم.. أما «شارلي ايبدو» فقد سخرت من انهيار الجسر والقتلى (العدد رقم 1361) ولم تراعِ شعور عائلات الضحايا على الأقل. ونتساءل: أين الخجل الإنساني من دموع الأهل والأمهات؟

انعدام الذوق الإنساني والرهافة!

أنا لا أصفي حساباً قديماً مع دورية سخرت من سيدنا محمد، فمن شيمها الاستكبار على مشاعر الآخرين ومقدساتهم أو حزنهم على قتلاهم.. لكنني أكتب عن حادثة معينة.
فقد صدر غلاف مجلة (شارلي ايبدو) بعد كارثة انهيار الجسر ساخراً من (رداءة) المهندسين الإيطاليين، ومن فقر المهاجرين إليها الذين يعملون في كنس الحطام. وأتساءل: لو كان بين القتلى بعض أفراد عائلة رسام كاريكاتير غلاف (شارلي ايبدو) الساخر، هل كان سيرسم كاريكاتيراً كهذا؟

إحراق مبنى التلفزيون لبرنامج ساخر!!

في عالمنا العربي السخرية (حتى في محلها) تستدعي الانتقام ولا تُقابل بالتسامح كما في البلاد الديمقراطية حقاً، كفرنسا.. وأكتفي بالحديث عن لبنان الذي يتضمن هامشاً كبيراً للحرية.
ولكن حدث ذات يوم أن سخر مسرحي في برنامج تلفزيوني لبناني من زعيم حزبي له صفة طائفية دينية، وكان الرد بحضور بعض أتباعه لإحراق مبنى التلفزيون الذي بث ذلك!
معظم الحكام العرب، ناهيك عن (زعماء) الميليشيات اللبنانية، لا يتحمل أحدهم كلمة نقد واحدة (لعظمته) ولتنزيهه ووضعه فوق مستوى البشر «بتكليف إلهي» أحياناً!! من طرفي أعتقد أن فن السخرية ضرورة للتنفس أمام الاختناق من تعظيم البعض من الزعماء لأنفسهم. وبالمقابل لا يحق للسخرية تجاوز حدود مشاعر الذين انكسرت قلوبهم لفقد أحباء في انهيار لجسر مثلاً.. ومن الضروري عدم السخرية من أحزان البشر، ولا الاستكبار عليها.

أمثلة على قلة الرهافة الإنسانية

حين تحطمت طائرة روسية وقتل ركابها قبل ثلاثة أعوام، سخرت (شارلي ايبدو) من ذلك ورسمت جمجمة أحد الركاب المقتولين وقد كتب عليها «مخاطر الرحلات الجوية الروسية منخفضة الكلفة». وجدت يومئذ في ذلك قلة رهافة نحو عائلات الضحايا والمشاعر الإنسانية، وباختصار نحن في عالمنا العربي في حاجة إلى أدب السخرية، وذلك لوفرة النماذج التي تدعو إلى ذلك، في المقابل ثمة حدود ليس من المقبول أن يتجاوزها ذلك الأدب، وهو جرح شعور الآخرين العاديين الأبرياء الذين فقدوا غاليًا، وأمهات القتلى.

السخرية من الذات: طلعت شناعة

لعل أجمل أنواع الأدب الساخر: السخرية من الذات، إذ يسخر الكاتب من نفسه قبل سواه، وذلك نادر جداً في أدبنا العربي. الأديب الأردني طلعت شناعة يمثل في كتابه «حفل استهبال» أحد نماذج كتب السخرية العربية النادرة.. والغلاف الناجح من محمد فايز المغربي يمعن سخرية في تنفيذه وإخراجه، إذ نرى المؤلف راكباً حماره (بدلاً من حصان مطهّم) في صورة مركبة على كاريكاتير. أما الكتاب فغاية في الطرافة والعمق (صدر طباعة خاصة ـ توزيع مكتبة الطليعة العلمية).
إنه كتاب يطرح قضايا تثقل على القلب العربي ولكن بخفة ظل.. وذكاء. وعلى غلافه شهادة لرشاد أبو داود: «طلعت شناعة أصلي كالهواء، حساس كوردة، يكتب بنبضه ـ شاعر فيروزي».

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية