قريبا من هذا العنوان صدر في باريس عن منشورات لافبريك كتاب «أن ننسى كامو» للباحث أوليفيه غلواغ أستاذ مساعد في جامعة كارولين الشمالية. مؤلف الكتاب يعرف جيدا أن النسيان ليس مقابلا للذاكرة وحسب، بل هو مقَوِّم من أهم المقومات التي تشكل الأمة على ما ذهب إليه المفكر الفرنسي أرنست رنان (1823-1892)، نهاية القرن التاسع عشر. ولعلّ خاصية النسيان هي التي لعبت الدور الكبير في تسوية وتصفية ما كان ملبدا من توتر شائك في العلاقات بين فرنسا وألمانيا، ليقودا معا قاطرة الوحدة الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية. فدعوة الكاتب إلى نسيان ألبير كامو صاحب الشهرة العالمية، والحضور المتميز والكثيف في الدراسات اللغوية والنقد الأدبي والتاريخي، وما يتعلق بعلوم الإنسان والمجتمع، هي دعوة من فرط هذا الاعتبار الكبير الذي صار بدوره يستدعي ضرورة تصفية حياة وأعمال كامو من الأساطير التي حامت حولها.
يرى الباحث أن واحدة من الأساطير التي يجب التخلص منها عند الحديث، أو تناول موضوع ألبير كامو، هي أنه لم يكن مناهضا للاستعمار، بل كان من أنصار إصلاح منظومته، بإضفاء الوجه الإنساني عليه، وتصحيح مساره في الجزائر بما يسعد الطرفين معا. وما يترتب عن هذا أن كامو لم يكن من دعاة استقلال الجزائر. ولأن الموضوع يتعلق بكامو ذاته، أي الذات برُمَّتِها وما تنطوي عليها من طبقات الوعي والضمير والوجدان، فإنه يصعب جدّا الفصل في مسألة الاستعمار والاستقلال عند كامو، لأن مساره ومصيره حدّده خلال سياقه التاريخي الفريد ومن وحي ثقافته الفرنسية، التي لم تتوقف يوما عن التشكيل وإعادة الصياغة، والعجز من ثم، على الوقوف على الحالة الأخيرة، أو الرأي والموقف الأخير. والواقع، أن دعوة المؤلف إلى نسيان كامو هي اعتراف بعدم إمكانية الإمساك بالرجل، لأن يكتب حياته يوميا. وبتعبير آخر يفيد المعنى ذاته، أنه يحضر في الحياة اليومية بقدر ما يؤلف عنها ومن وحيها. فالتلازم بين الفكر والعيش قائم في اللحظة ذاتها هي التي تمكنه من العيش الأبدي، أي تَوَاصله مع التاريخ، حتى إن مضى وانقضى، وحتى إن مات كامو نفسه. وهذا ما جرى ويجري فعلا، فهو لا يكف عن الظهور والتجلي بين الحين والآخر، مثل سماء غائمة تتخلل من حين لآخر إشراقات شمس ونور وضياء على ما كان به كامو مفتونا ومأخوذا في حياته وفي كتاباته على السواء.
يصعب جدّا الفصل في مسألة الاستعمار والاستقلال عند كامو، لأن مساره ومصيره حدّده خلال سياقه التاريخي الفريد ومن وحي ثقافته الفرنسية
لم يكن ألبير كامو مناهضا للاستعمار بالمعنى السِّجالي والأيديولوجي، وحتى الشعبوي الذي كانت تتداوله الرعية من «الأهالي» العرب واليسار المبتذل، لكن الاستعمار وموضوعاته وقضاياه أثارها بالقدر الذي توحي إلى المناضلين الوطنيين والشيوعيين بالتصدي للاستعمار، والانبراء له ليس في الجزائر وحسب، بل في سائر أرجاء العالم، خاصة في فرنسا نفسها، فقد ناضل وفكّر في موضوع الاستعمار تفكيرا وجوديا، أي أنه يأخذ بمعطيات الواقع كافة، على ما تصنعه فرنسا وما يصنعه الجزائريون، ولو نوعا من الصناعة. والغالب والأهم في هذه المعطيات أن لا تضيع فرنسا ولا تختفي في لحظة تاريخية مفصلية ومصيرية، وحتى لا يبدو أن خروج فرنسا من الجزائر هو تصرف استعماري يعد استمرارا وفيا لتاريخ الفساد والعنف والطغيان. وبالمثل يمكن أن نشير إلى موضوع الاستقلال، الذي ابتعد عنه كامو، لأنه ليس من الموضوعات القريبة بالنسبة إليه، لأن معناه المتداول ليس في التاريخ، بل في الخطاب الأيديولوجي بعناوينه الغوغائية ومفرداته السِجالية، التي لا تصمد أمام حقائق التاريخ والوجود الحقيقي وليس الشكلي، الذي لم يعد يُحِيل إلى أي معنى أو فكرة واضحة لها آليات وأدوات التَّحَقّق إن في الوقت الحاضر أو المآل. فِكْر كامو مع حياته كيان واحد، والفرنسي والجزائري في كيان واحد قريبين من بعضهما، لكنهما مستقلان تمام الاستقلال بسبب مكوث الاستعمار زمنا طويلا في الجزائر. ما يوفره التحليل التاريخي والنقدي، هو أن الباحث أوليفيه غلواغ ينتمي إلى عصر ما بعد الاستعمار، المفتوح على قدر كبير من الآراء والتحليلات والنتائج. وفي الوقت الذي نعتقد أننا نقوم فيه بعملية تصفية الأساطير والأوهام والتصورات المسبقة، التي حامت وعلقت بالشخص، نقوم في الوقت ذاته بعملية خلق أساطير جديدة له وإعادة تشكيله من جديد، خاصة في شخصيات مثل شخصية ألبير كامو، فهذا الأخير صنع أسطورته بقوة وجوده في الجزائر، ومنها استمد فلسفته الوجودية وعبّر عنها بصيغة العبث أو اللامعقول، كما جرت ترجمته إلى اللغة العربية في خمسينيات القرن العشرين. فالمسار الذي قطعه كامو يحتاج إلى معايشة وجدانية، بالقدر الذي نلتقط الفهم والمعقول لواقع ووضع غير معقول. كامو يسكن في لغة فرنسية ويريد أن يعيش في قطر وبلد عربي، وعملية المطابقة هنا مستحيلة ليس له فقط، لأنه فرنسي حتى النخاع، بل على الجزائريين أيضا الذين امتلكوا اللغة الفرنسية، أو امتلكتهم وفضلوا مواصلة الحياة، حيث يمكن الإقامة والإيواء، أي في اللغة الفرنسية قدرهم زمن الاستعمار وملاذهم ما بعده. وهذا لا ينقص إطلاقا من قيمتهم واعتبارهم لأنهم كانوا جميعا مساوون لأنفسهم في تاريخ معقد ومركب وشائك، استطاع كامو، وهنا سر عبقريته، أن يعبر عنه بإبداع فني ونمط عيش مواز له، لا يدرك معناه إلا من أوتي القدرة على تمثل العصر، واستعادة لحظاته ومعاني الكلمات المتداولة فيه، والتطلعات التي اجتاحت عقول الفاعلين فيه وقطعت أحلام الغالبية من الناس العاديين.
ليس كل ما تقدم هو دفاع عن كامو لأنه هو وأعماله أفضل من يدافع عنه لمن يحسن القراءة والمعالجة والفهم، كما أن ما تقدم ليس نقدا تجريحيا للباحث الشاب أوليفيه غلواغ، على ما تفعل هذه الأيام الدوائر الإعلامية والعلمية في فرنسا، بل هو رأي ومساهمة في «حالة كامو»، كان يجدر بآلاف الجزائريين أن يسعفوا الباحث بـ»كامو الجزائري»، من أجل أن تكتمل الصورة كاملة عن المبدع الكبير والانخراط معه في توضيح الحالة الاستعمارية على وجهها القريب من الحقيقة والحياة، كما كانت بالفعل، بعيدا عن الأساطير التي حاول الباحث الشاب تخليصها وتصفيتها، لكن غياب الشطر المتعلق بإسهامات الجزائريين والعرب عن ألبير كامو، هو الذي أودى بالمؤلف مرة أخرى إلى صناعة أساطير أخرى من نوع عدم إنسانيته ونزعته الاستعمارية ومناهضته لحق الشعوب في النضال والكفاح ونفوره من الوطنيات..
كاتب وأكاديمي جزائري